من معارض «هامشي» لفرنسوا هولاند إلى منافس حقيقي في «الحزب الاشتراكي» الفرنسي. هكذا تدرج «المنضبط» بنوا هامون، ليصبح المرشح الاشتراكي المفضّل بوجه رئيس الحكومة السابق مانويل فالس، طارحاً في برنامجه سياسات اجتماعية تختلف عمّا أطلقته الحكومات المتعاقبة في عهد هولاند. وهو يمثل في الوقت نفسه وجهاً من أوجه الانقسام الحالي للاشتراكيين الفرنسيين.
ومع أن حظوظ بنوا هامون (49 عاماً) في التأهل إلى الدورة الثانية من رئاسة الجمهورية في أيار المقبل أو الفوز بها ضعيفة، مثل أي مرشح اشتراكي آخر، فإنّه ظهر بعد تصدره نتائج انتخابات اليسار التمهيدية، الأسبوع الماضي، بأن هدفه الحالي ليس الفوز بالرئاسة، بل وضع نفسه كمرشح طبيعي لليسار وأحد زعمائه المجددين، ليكون بعد ذلك ربما منافساً قوياً في انتخابات عام 2022.
عينُ بنوا هامون على الرئاسة إذاً، بعد خمس سنوات، لكنّ هدفه الرئيسي التمثيل الفعلي لـ«الحزب الاشتراكي»؛ هدف يسعى إلى إظهاره في برنامجه الانتخابي المرتكز على السياسات الاجتماعية، والمتأثر بالجذور الفكرية التي تدرج منها داخل الحزب، ما يجعل منتقديه يتهمونه بأنه يساري «طوباوي»، في مقابل «واقعية» مانويل فالس.
وتعود جذور «طوباوية» هامون الذي يحمل إجازة في التاريخ، وهو منحدر من منطقة بريتاني لأب وأم عاملين، إلى عام 1992، حينما قاد «حركة الاشتراكيين الشباب» ولعب دوراً في تقويتها، حتى تحولت إلى قوة ضغط مؤثرة قادرة على تحريك عدد كبير من الناس.
وبعد «صدمة» 21 نيسان 2002 حينما هُزم مرشح اليسار ليونل جوسبان أمام مرشحَي اليمين واليمين المتطرف، أسّس هامون إلى جانب أرنو منتبورغ وفنسان بايون وجوليان دراي «الحزب الاشتراكي الجديد»، رغبة منهم في تجديد «الأمل» لدى «الطبقة الشعبية».عام 2005، سار «الاشتراكي الجديد» وبعض من يسار «الحزب الاشتراكي»، ومن بينهم جان لوك ملنشون، في الحملة المناهضة للدستور الأوروبي. عام 2007، وفيما خرج جان لوك ملنشون من الحزب ليؤسّس حزبه الخاص بعد ذلك، بقي هامون، ليدخل عام 2012 إلى الحكومة الاشتراكية، وكذلك أرنو منتبورغ، في عهد هولاند.
أمضى هامون الروكاردي (نسبة إلى رئيس الوزراء الأسبق، الاشتراكي ميشال روكار) عقدين متدرجاً داخل حزبه، داخل السلطة أو معارضاً، من دون أن يخرج عنه، حتى في ذروة معارضته في 2014 للسياسات الاقتصادية الليبرالية لحكومة هولاند، خصوصاً قانون ماكرون.
يلعب بعض من قدامى نواة «حركة الاشتراكيين الشباب» دوراً في حملته اليوم وفي «الحركة الهامونية» التي يبدو أنها بدأت تأخذ شكلها داخل «الحزب الاشتراكي». وبالنسبة إلى النائب جان ــ باتريك جيي، الداعم للمرشح الاشتراكي الخاسر فنسان بايون، فإن هامون «يرسم منذ أكثر من 20 عاماً حركة وشبكة، صعدت بشكل لافت. حركة هامون منظمة أكثر بكثير من حركة أرنو منتبورغ (مرشح آخر مهزوم عن الحزب الاشتراكي).
قد يساعد برنامج هامون المبني على طروحات اجتماعية بجذب الناخبين إليه، إلا أن واقع ضعف منافسيه يلعب دوراً في ذلك أيضاً، خصوصاً مانويل فالس الذي يمثل «يسار الوسط» ويمثل عهد فرنسوا هولاند الذي خرج عنه معارضو «الحزب الاشتراكي»، ما أثّر على شعبية فرنسوا هولاند وعلى شعبية «الحزب الاشتراكي». لكن في ذلك الحين، لم يعر هولاند أهمية للتهديد، واصفاً إياه باقتضاب بأنه «ليس بالشيء الكثير». وقد قال هولاند في آذار 2015: «ما الذي سيكون عليه بنوا هامون من دون الحزب الاشتراكي؟»، وذلك في حديثه مع صحافيَّين من «لوموند» في قصر الإليزيه، جيرار دافيه وفابريس لوم، اللذين أصدرا كتاب «لا يجدر بالرئيس أن يقول ذلك».
بعد عامين من ذلك التاريخ، احتل هامون مركز هولاند كالمرشح المفضل للحزب الاشتراكي في فوز قد يعكس أيضاً، وفق الباحث في «معهد العلوم السياسية ــ باريس» برونو كوتري، تياراً متصاعداً في الغرب، حيث «التهمت عقود من الأزمات اليسار مع ارتفاع في البطالة وعدم المساواة». من هنا يحلم كثر من «الاشتراكيين بالعودة إلى القيم الجوهرية لليسار»، وفق كوتري الذي أشار إلى التشابه بين هامون ورئيس «حزب العمال» البريطاني جيريمي كوربين، وإلى التشابه مع حزب «بوديموس» الإسباني، والسناتور الديموقراطي الأميركي بيرني ساندرز، الذي التقاه هامون مطولاً، في الصيف الماضي، أثناء الإعداد لبرنامجه الانتخابي.
ووفق المتخصّص في الشأن الاجتماعي والشأن السياسي الأميركي، جان إيرك برانا، ففيما تزداد «المقارنات بين فرنسا وأميركا»، يمكن «ملاحظة عدد من الاختلافات التاريخية والثقافية بين البلدين، التي تحدّ بالعمق من كل المقارنات». لكن في ما يتعلق بتمهيديات اليسار، يقول جان إيرك برانا، في حديث مع صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية: «نلاحظ أن رجلاً (في إشارة إلى هامون) غير معروف لدى الرأي العام ولم يملك فرصة في الفوز، قد تمكن من تخطّي مرشح أكثر شهرة في حزبه»، تقريباً مثل بيرني ساندرز «الذي من أجل الدفع بمعكسره، اقترح برنامجاً جريئاً، ولم يتردد في اتخاذ المخاطرات، مهاجماً وول ستريت، ومكافحاً من أجل العدالة الاجتماعية والدعوة إلى رفع كبير للحد الأدنى للأجور. واقترح الدخول المجاني إلى الجامعات للعائلات التي تجمع أقل من 125 ألف دولار سنوياً، إضافة إلى رغبته في إنشاء تأمين صحي للجميع على الطريقة الفرنسية، وارتباط قوي بمسألة المناخ»، وذلك مثل هامون الذي يدعو إلى الدخل الأدنى للجميع، وهو ما يدخل ضمن «منطق القطيعة والجرأة نفسه».
ويعِدُ بنوا هامون (الذي لم يُعارض الحروب الخارجية التي شنّها هولاند) بإلغاء قانون العمل في حال فوزه برئاسة الجمهورية، إذ بالنسبة إليه، فإن هذا القانون «لا يعزز من كرامة العاملين ولا وضعهم ولا قدرتهم الشرائية»، معرباً عن نيته إطلاق «قانون عمل حقيقي». ويهاجم أيضاً «السباق نحو النمو»، ويفضّل «الزهد»، ويريد «تشجيع» الحدّ من فترة العمل، وخصوصاً «تغيير علاقات العمل» في عالم يمرّ في أوج تقلبات رقمية.
أبرز مقترحات بنوا هامون في هذا الإطار هو «الدخل الشامل» (وهي سياسة يجري العمل عليها في دول أخرى مثل فنلندا)، أي حداً أدنى من الدخل للجميع بمعدل 750 يورو للشخص، عاملاً كان أو عاطلاً من العمل. هذا الدخل من المفترض أن يعطي «لكل حريته والخيار بالعمل أقل من دون تخفيض دخله». كيفية التطبيق تتم بشكل تصاعدي: في مرحلة أولى، يرفع الحد الأدنى للأجور للجميع بنسبة عشرة في المئة، أي 600 يورو شهرياً، بالتوازي مع ذلك، يدفع دخل أساسي لجميع الشباب. وفي مرحلة ثانية، يتم تنظيم «مؤتمر للمواطنين»، من أجل تثبيت نطاق وتوقيت هذا الإصلاح. يشرح بنوا هامون مقترحه قائلاً إن «الدخل الشامل هو وسيلة مذهلة لإعادة التوزيع. تمويلها يتم بزيادة الرسوم، ولكن بشكل حصري على مستويات الدخل الأعلى».
من جهة ثانية، يُقارن بنوا هامون برئيس «حزب العمال»، جيريمي كوربن. لكن بالنسبة إلى رئيس الوزراء السابق مانويل فالس، فإن لكوربن مسيرة مختلفة جداً عن مسيرة بنوا هامون، خاصة «باختياره البقاء في المعارضة». ويردّ الوزير السابق، بنوا هامون، على ذلك بالقول إنّ العمل الحكومي لا يلغي «الحلم... الذي يختفي من المعسكر الاشتراكي».
يختلف بنوا هامون كثيراً عن نظيره البريطاني، وذلك من واقع أنه كان وزيراً سابقاً ويظهر اهتمامه بالعمل في الشأن العام، إضافة إلى أنه ليس معارضاً للمنظومة الأوروبية السياسية، وهو اختلاف ظاهر، يتجسّد أيضاً في مسيرة وظروف الرجلين، مع وجود بعض نقاط التشابه النابعة من انتقادهما للحكومة وسعيهما إلى تجديد الطاقة بالتحول إلى اليسار.