برازيليا | يرفض عدد كبير من الإعلاميين والسياسيين البرازيليين نظرية «الصدفة» التي تواكب الأحداث السياسية المصيرية في البلاد والتي كان آخرها مقتل القاضي الاتحادي، تيوري زافازكي، مساء الخميس الماضي، بعد سقوط طائرة خاصة صغيرة كانت تقلّه مع أربعة من مساعديه إلى مدينة ريو دي جانيرو.
هذه الحادثة هي ليست الأولى في البرازيل، فقبل ثلاثة أعوام قضى المرشح الرئاسي اليميني، إدواردو كامبوس، بحادث مروحية، ما هيّأ الظروف لإجماع المعارضة يومها على ترشيح، إيسيو نيفيز، الذي قاد معركة قاسية مع الرئيسة العمالية، ديلما روسيف، والتي كسبتها الأخيرة بفارق ضئيل جداً.
رحيل زافازكي في هذا التوقيت بالتحديد، فتح الباب أمام موجة من التساؤلات بعد لحظات من وقوع الحادث في منطقة باراتي الواقعة في الساحل الجنوبي لريو دي جانيرو. فالقاضي هو عضو في المحكمة العليا البرازيلية والمسؤول المباشر عن أخطر ملفات الفساد التي طاولت عدداً من السياسيين البرازيليين، وفي مقدمهم الرئيس الحالي ميشال تامر، والأهم أن القاضي البالغ من العمر 68 عاماً كان قد قطع شوطاً مهمّاً في مسار التحقيقات، وخصوصاً في فضيحة شركة «أوديبرشت» التي كشفت تورط معظم الطبقة السياسية التي تحكم البلاد حالياً.
التداعيات الأولى لمقتل زافازكي أعلنها المدعي العام الاتحادي، رودريغو جانوت، الذي أكد أن التحقيقات في ملفات الفساد ستشهد تأخيراً لا يقل عن ثلاثة أشهر. تأخير سيطاول أيضاً 950 شهادة في قضية شركة «أوديبرشت» التي تحتل 78 قضية، أكثر من نصفها تطاول الرئيس الحالي، ميشال تامر، وعدداً من قياديي الحركة الديموقراطية، فيما أشارت معلومات خاصة لـ«الأخبار»، إلى أن غياب زافاسكي كان يمثل حاجة ماسة لعدد من متورطي الصف الأول بعد ورود معلومات، مؤكدة أن القاضي المغدور كان يخط أولى محاضر التوقيف والاستدعاء إيذاناً بانطلاق عملية مكافحة الفساد التي كانت ستغير وجه البرازيل في غضون أشهر فقط.
أمام هذا النقاش الصاخب، سارعت الشرطة الفيدرالية إلى الإعلان عن بدء التحقيق في حادث سقوط الطائرة، وأكدت أنها ستتعاطى مع كل الاحتمالات، وخصوصاً بعد تسريب مصدر أمني للصحافي الاستقصائي الشهير، كلاوديو توغنولي، معلومات مفادها أن الطائرة المذكورة تعرضت للمراقبة منذ بداية العام الحالي.

خُرقت قاعدة البيانات التابعة للطائرة أكثر من 1885 مرة في يوم واحد
وكشفت التسريبات أن قاعدة البيانات التابعة للطائرة خرقت أكثر من 1885 مرة في يوم واحد فقط، وهو أمر غير اعتيادي. وعليه، فإن نظرية الاستهداف تبقى في قائمة الاحتمالات، الأمر الذي دفع بنجل القاضي فرانسيسكو زافازكي إلى المطالبة بالعمل الحثيث على كشف ملابسات الحادث لأن البرازيل لن تحتمل أي تستّر على مقتل عضو في المجلس الدستوري.
في الإجراءات الإدارية، أعلنت رئيسة المحكمة العليا، كارمن لوسيا، أنها بصدد التشاور من أجل تعيين بديل لزافاسكي في أقرب فرصة، كي لا تتضرر التحقيقات التي أنجزت أخيراً. إعلان لوسيا يأتي لقطع الطريق أمام الرئيس، ميشال تامر، الذي يسعى إلى التدخل من أجل تعيين أحد المقربين باعتبار أن زافازكي كان من الحصة الرئاسية وتقلد منصبه بعد تسميته من قبل الرئيسة المخلوعة، ديلما روسيف. واقع حذر منه رئيس المحكمة العليا السابق، جواكيم باربوزا، الذي اعتبر أن وفاة زافازكي هي خسارة لن تعوَّض، وأن الالتفاف على إنجازاته سيكون الكارثة الحقيقية التي ستحل في البلاد.
يجزم مصدر قضائي برازيلي، في حديث إلى «الأخبار»، بأن رحيل زافازكي، سيحول مسار التحقيق باتجاه آخر. فالرجل كان يُعتبر ضمانة قانونية، وأثبت أنه خارج الاصطفاف السياسي مهما حاول البعض اتهامه بالانحياز إلى العماليين. فهو القاضي الذي رست عليه القرعة في قضية تحويل ملف الرئيسة السابقة، ديلما روسيف، إلى مجلس الشيوخ. فضَّل القاضي زافاسكي حينها تحويل القضية إلى قاضٍ آخر كي تكون بعيدة عن التجاذبات السياسية. وبعد أيام من تصديق المجلس على تنحية روسيف، رفض القاضي نفسه طلب الطعن الذي قدمته الرئيسة العمالية لتعطيل قرار الإقالة، حينها لم يأخذ زافازكي بالحسابات السياسية التي قلدته منصبه، ما أكسبه صدقية عالية كانت تحتاج إليها البرازيل في أحلك ظروفها. فنظرية الاغتيال بالنسبة إلى المصدر القضائي هي الأقرب إلى الحقيقة، حيث إن طموح زافازكي كان يقارب منطقة الخطر التي تمترس فيها الطبقة الفاسدة. وعليه، فإن التخلص منه يهدف إلى إشاعة أجواء تخويفية تحد من طموح أي قاض يسعى إلى مقاربة الملفات الحقيقية التي من شأنها تخليص البلاد من مافيا الفساد والجريمة المنظمة التي تنعم بالسلطة من رأسها حتى أخمص قدميها.