يتابع موقع «ويكيليكس» نشر أجزاء من المعاهدات السرية الثلاث الكبرى التي تسعى الحكومات الغربية لفرضها على الكثير من دول العالم، وكان آخر الوثائق المنشورة ملحق السياسة الصحية بفصل «الشفافية» من اتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادئ»، والذي يقيّد السياسات الصحية العامة للدول، ويسمح للشركات الصيدلانية المعولمة بالتدخل في القرارات السيادية حول ترخيص واعتماد المنتجات الصيدلانية، وفي تسعير تلك المنتجات، وتقرير حق المواطنين أو عدمه بالحصول على تعويض من المؤسسات الصحية الضامنة عند شرائهم للمنتجات تلك. باختصار، من شأن التزام الدول بالمعاهدة تلك أن يمنع تطويرها سياسة صحية مستقلة، واستطراداً، من شأنه أن يعيق تطوير صناعات دوائية محلية في الدول النامية.
«من الخطأ اعتبار اتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادئ» TPP معاهدة واحدة؛ فالحقيقة أن الأخيرة، مع اتفاقيتين كبريين هما «اتفاقية التجارة بالخدمات» TISA و«الشراكة عبر ــ الأطلسي في التجارة والاستثمار» TTIP، تشكل جميعها معاهدة واحدة عظمى، تقسّم العالم بين الغرب وكل ما عداه. ويصف البنتاغون هذه «المعاهدة العظمى» بالنواة الاقتصادية للاستراتيجية العسكرية الأميركية بإعادة التموضع نحو آسيا... وهي تتبلور في سرية تامة، ذلك أن أبعادها تتجاوز الطموحات الجيوستراتيجية المعروفة، لتفرض (على الدول) شكلاً جديداً وشرساً من هيمنة الشركات العابرة للحدود الوطنية، (بما يتجاوز) الإرادة الشعبية». هكذا يرى ناشر موقع «ويكيليكس»، جوليان أسانج، حزمة المعاهدات الثلاث التي تسعى حكومات الغرب لفرضها على دول تبلغ حصتها من الناتج العالمي الإجمالي حوالى الثلثين.

«قلة من الناس، حتى ضمن حكومات الدول التي تتفاوض حول المعاهدة تلك، يُسمح لهم بالاطلاع على النص الكامل لمسودة الاتفاقية؛ أما الرأي العام، وهو الأكثر تأثراً بإقرار المعاهدة، فليس لديه الحق أبداً بالاطلاع على المسودة. وذلك بينما أعطيت المئات من الشركات الكبرى الحق بالاطلاع على أجزاء من النص، ما خلق مجموعات ضغط ذات نفوذ كبير، تمكنت من فرض تعديلات على النص، بما يتوافق ومصالحها»، يقول موقع «ويكيليكس»، مشيراً إلى أنه يُمنع نشر الوثائق ذات الصلة قبل 4 سنوات من تحول مشروع الاتفاقية إلى قانون نافذ. وقد تمكن الموقع من الحصول على أجزاء من الاتفاقية، نشرها تباعاً منذ عام 2013، وكان آخرها في العاشر من الشهر الجاري، وهو ملحق السياسة الصحية بفصل «الشفافية» من اتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادئ».
ويشرح الموقع أن الملحق المذكور يهدف إلى تقييد السياسات الحكومية حول المنتجات الصيدلانية، أي الأدوية والأدوات الطبية، ويجبر السلطات المعنية على إعطاء شركات الصيدلة الكبيرة معلومات تفصيلية عن السياسات الصحية، فضلاً عن إعطائها صلاحيات واسعة للتدخل في السياسات العامة التي ترى الشركات أنها تتعارض ومصالحها. وينقل الموقع تحليلات لاثنين من الخبراء في السياسات الصحية، تفيد بأن الملحق المذكور يستهدف «شل» النظام الصحي النيوزيلندي تحديداً، ومنع تبنيه كنموذج من قبل دول العالم النامي.
ينص الملحق المذكور الذي يعود تاريخه إلى كانون الأول 2014، في أحد الهوامش، على أن «الأطراف الموقعة تؤكد أن الهدف من الملحق ضمان الشفافية وعدالة الإجراءات ذات الصلة بأنظمة الأطراف (الدول) المتعلقة بالمنتجات الصيدلانية... ولا تهدف إلى تعديل أنظمة الرعاية الصحية أو تحديد أولويات الإنفاق الصحي للأطراف بأي شكل من الأشكال». غير أن التدقيق في النص وأبعاد الالتزامات التي يفرضها يُظهر غير تلك الصورة. وعلى سبيل المثال، تنص الفقرة المتعلقة بـ«عدالة الإجراءات» المتبعة لإدراج المنتجات الصيدلانية في اللوائح الرسمية المعتمدة وتحديد قيمة التعويضات التي يلحظها نظام الرعاية الصحية، على أن تعطي السلطات المعنية الشركات «الفرص الملائمة لإبداء ملاحظاتها حول نقاط محددة في عملية اتخاذ القرار»، وأن ترد على استفسارات الشركات «بمعلومات مكتوبة كافية لفهم الأسس المتبعة لتقرير لوائح المنتجات الطبية الجديدة المعتمدة»، وأن توفر «آلية مستقلة لمراجعة قراراتها، بناء على طلب (شركة) تأثرت مباشرة بقرار أو توصية صادرة عن السلطات الصحية بعدم إدراج منتج طبي» على لوائحها المعتمدة. وفي السياق نفسه، تنص الفقرة بعنوان «الاستشارات» على أن تدرس الدول، «لتسهيل الحوار والفهم المشترك حول المسائل التي يتطرق إليها الملحق»، إعطاء الفرصة المناسبة لإجراء استشارات عند الطلب الخطي (من قبل الشركات أو الدول الراعية لمصالحها) حول أي مسألة تتعلق بالملحق، وأن تُحدد المهلة المعطاة للاستشارات بـ 3 أشهر (إلا إذا اتفق الطرفان على غير ذلك)، وأن تضم الاستشارات مسؤولين عن السياسة الصحية العامة، ومسؤولين حكوميين آخرين حيث يجب.

إستخدام الاتفاقيات الدولية للعبث بالأنظمة الصحية للدول «سابقة فظيعة»

ترى الأستاذة في كلية الصحة العامة في جامعة «لا تروب» في أوستراليا، ديبورا غليسون، أن الملحق يفرض على السلطات الصحية عملياً إشراك الشركات الخاصة في قراراتها المتعلقة بإدراج المنتجات الصيدلانية على لوائحها المعتمدة أو عدمه، وبتسعير تلك المنتجات، وبتقرير حق المواطنين أو عدمه بالحصول على تعويض من المؤسسات الصحية الضامنة عند شرائهم منتجات صيدلانية، وبأي قدر. وتعلّق غليسون على الملحق قائلة إن «تضمين اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ لملحق حول شفافية أنظمة الرعاية الصحية لا يخدم المصلحة العامة، بل يشكل سابقة فظيعة لاستخدام اتفاقيات تجارية دولية للعبث بالأنظمة الصحية للدول، والحد من الخيارات المتاحة للدول النامية الساعية إلى بناء أنظمة رعاية صحية في المستقبل». وترى غليسون أنه على العكس من الهدف المعلن للملحق، وهو تأمين «رعاية صحية عالية الجودة»، فإن الملحق لا يقدم شيئاً في الحقيقة يخدم الهدف المزعوم، بل إنه «مصمَم بوضوح لخدمة مصالح شركات الأدوية». وتتابع غليسون قائلة إن الملحق «لا يقدم شيئاً لتشجيع «التجارة الحرة»، بل إنه يقيد برامج الدول لدعم المنتجات الصيدلانية، بهدف تأمين المزيد من المعلومات والفرص لشركات الصيدلة لتمارس المزيد من التأثير والتحدي للسياسات الصحية العامة». وترى غليسون أن «الملحق يستهدف بوضوح الوكالة النيوزيلندية لإدارة القطاع الصيدلاني PHARMAC»، وأن بعض مواد الملحق سترتب أعباء إضافية على الوكالة، من شأنها أن «تمس بمرونتها واستقلاليتها»، وخاصة أن الوكالة «تشكل نموذجاً لبرنامج تغطية صحية مناسب للدول النامية».

وفي السياق نفسه، ترى البروفسورة جاين كيلسي (نيوزيلندا) أنه «بينما يسعى فصل «الملكية الفكرية» من اتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادئ» إلى تعزيز احتكار شركات الصيدلة للأدوية، فإن ملحق «الشفافية» يؤدي إلى تقويض سلطة الوكالات الحكومية التي تقرر أياً من المنتجات الصيدلانية ستنال الدعم، وبأي قدر». وترى كيلسي أن الصناعات الصيدلانية للولايات المتحدة قد حددت الوكالة النيوزيلندية لإدارة القطاع الصيدلاني كهدف أساسي للملحق، وأن مسودة الملحق المسربة «تُظهر أن اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ ستؤدي إلى تقويض قدرة الوكالة على الاستمرار بتقديم الأدوية والخدمات الطبية بأسعار معقولة، كما دأبت على الفعل خلال العقدين الماضيين. وذلك يعني أن أدوية أقل سوف تنال الدعم، وأن الناس سيدفعون من مالهم الخاص أكثر، أو أن حصة أكبر من الموازنة الصحية ستذهب لشراء المنتجات الصيدلانية. ومهما كانت النتيجة، فإن الشركات الصيدلانية المعولمة ستربح، والأفقر والأكثر ضعفاً من النيوزيلنديين سيخسرون».

(الأخبار)