لندن | تقف بريطانيا أمام مفترق طرق صعب جداً، وكل شيء وارد في علاقتها مع بروكسل؛ فالتحدي الأوروبي فرض نفسه بقوة على المشهد السياسي البريطاني، خصوصاً بعد فوز حزب المحافظين في الانتخابات البرلمانية وتبنيه قضية الاستفتاء الشعبي المقرر إجراؤه خلال العامين المقبلين حول البقاء في الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه. رئيس الوزراء ديفيد كاميرون الذي يتعرض لضغوط كبيرة داخل صفوف حزبه لمغادرة الكتلة الأوروبية، وضع نصب عينيه في الوقت المتاح له قبل موعد الاستفتاء مسألة إقناع الزعماء الأوروبيين بإجراء تعديلات على المعاهدة الأوروبية.
لكن يبدو أن حسابات الحقل البريطاني قد لا تتوافق مع البيدر الأوروبي في ظل «الفيتو» الفرنسي والألماني الرافض لإجراء اي تعديل على اتفاقية لشبونة. كل المؤشرات تدل على أن التوجه العام لدى البريطانيين هو التحرر من القيود الأوروبية المفروضة على «بلاد الضباب»، لكن في الوقت نفسه تبقى الحسابات الاقتصادية والسياسية حاضرة في رجحان الخيار الإنكليزي.

أسباب خروج بريطانيا

أولاً: الهجرة الأوروبية إلى المملكة قد تكون أحد أهم أسباب الصراخ البريطاني في وجه بروكسل، فالأرقام الرسمية تتحدث عن تدفق 286 ألف أوروبي إلى سوق العمل البريطاني واستفادتهم من نظام الإعانات الاجتماعية ــ أمر يقلق لندن للغاية. لذا، يسعى كاميرون إلى تعديل القواعد المرتبطة بالهجرة وبالمخصصات التي يفترض أن يحصل عليها المواطنون الأوروبيون في بريطانيا. لكنه يُقابَل برفض أوروبي، لأن بند حرية تنقل الأفراد في الاتفاقية الأوروبية يُعَدّ واحداً من أهم بنود النادي الأوروبي.
في ميزان الربح
والخسارة قد تفرض التقديرات مراجعة الحسابات عند الطرفين

غير أن الضجيج والتذمر البريطاني من العمالة الأوروبية يراه آخرون مبالغاً فيه، إذ لفتت دراسة أعدتها جامعة لندن «UCL» إلى أن ضرائب العمال الأوروبيين رفدت الخزينة البريطانية بـ25 مليار جنيه استرليني خلال إحدى عشرة سنة، فضلاً عن أن نحو 45 في المئة من الأوروبيين هم أقل طلباً للاستفادة من الإعانات الاجتماعية من البريطانيين أنفسهم.
ثانياً: الاتحاد الأوروبي، كغيره من المنظمات الأوروبية، يفرض رسوماً على الدول المنضمة إليه، كل بحسب قوة اقتصاده وتعافيه. لكن بريطانيا التي تعتمد سياسة تقشفية بسبب العجز في موازنتها، تتذمر من الرسوم الأوروبية التي تثقل كاهل خزينتها التي يجب عليها دفع نحو 55 مليون جنيه إسترليني يومياً.
ثالثاً: المشككون البريطانيون يرون أن نظام الاتحاد الأوروبي يفتقر إلى الديموقراطية المعمول بها في النظام البريطاني، ويستشهدون بالصلاحيات الواسعة للمفوضية الأوروبية غير المنتخبة التي يحق لها وضع مشاريع قوانين على البرلمان الأوروبي المنتخب مباشرة من الشعوب الأوروبية.
رابعاً: في ظل التحديات الجيوسياسية التي تحيط بدول الاتحاد الأوروبي، تختمر في أذهان قادة الاتحاد فكرة إنشاء قوة عسكرية أوروبية موحدة، وقد عبّر رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، عن ذلك صراحة بداية العام الحالي، ودعا إلى إنشاء جيش مشترك للاتحاد الأوروبي للتصدي لروسيا وغيرها من التهديدات، فضلاً عن استعادة وضع الكتلة في السياسة الخارجية على مستوى العالم. لكن المملكة المتحدة التي تمثل إلى جانب فرنسا أكبر قوتين عسكريتين في الكتلة تشعر بالقلق حيال إعطاء دور عسكري أكبر للاتحاد الأوروبي، خشية أن يقوّض ذلك دور حلف شمال الأطلسي.
خامساً: التحرر من القيود المفروضة على السيادة البريطانية. فخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يحرر الجسم القضائي من أحكام القيود القانونية، ولا سيما المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، بحيث تصبح أحكامها غير ملزمة للمحكمة العليا البريطانية.

أسباب بقاء بريطانيا

لا شك أن مغادرة بريطانيا أوروبا، سيكون لها ثمن اقتصادي باهظ، ولا سيما خسارتها النفاذ إلى الأسواق الأوروبية، على الرغم من محاولة المشككين في الاتحاد الاوروبي التقليل من ذلك. فبريطانيا في حال خروجها من النادي الأوروبي ستجد نفسها مرغمة على إعادة التفاوض حول العديد من الاتفاقيات الثنائية مع الدول الأخرى، وستضطر كذلك إلى مراجعة الكثير من التشريعات التي أقرتها لتنفيذ قرارات على مستوى الاتحاد الأوروبي، وهو ما سيشكل عبئاً اقتصادياً كبيراً يصعب التكهن بتكاليفه.
أولاً: الحفاظ على وظائف الملايين من البريطانيين. يُعَدّ الاتحاد الأوروبي أكبر سوق صادرات بالنسبة إلى بريطانيا، حيث اشترت الدول الأوروبية 53% من منتجاتها في عام 2011. كذلك يقدم هذا القطاع، بنحو مباشر وغير مباشر، 3 ملايين وظيفة للبريطانيين، وفق ما أشار إليه نائب رئيس الوزراء البريطاني السابق، نيك كليغ، الرافض لمغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي. والأخطر أنه في حال مغادرة لندن السوق الأوروبية، ستخضع الصادرات البريطانية لرسوم جمركية كبيرة، وفي الوقت نفسه عليها تطبيق معايير الإنتاج الأوروبي.
ثانياً: المنافع الاقتصادية. لا توجد أرقام رسمية تحدد مدى الخسائر المترتبة على الاقتصاد البريطاني في حال مغادرة الاتحاد الأوروبي. «بنك إنكلترا» كشف أخيراً أنه يدرس حالياً المخاطر الاقتصادية التي قد تنجم عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لكن من المرجح أن تبقى سرية. إلا أن المؤشرات والبيانات الاقتصادية تظهر مدى حاجة بريطانيا إلى الأسواق الأوروبية لتصدير بضائعها، فضلاً عن واردتها الأوروبية. الأرقام الاقتصادية تبيّن أن المملكة المتحدة تستورد بضائع أكثر مما تُصدر إلى الاتحاد الأوروبي. على سبيل المثال: في عام 2011، صدّرت بضائع بقيمة 159 مليار إسترليني للاتحاد الأوروبي، بينما استوردت بضائع قيمتها 202 مليار استرليني، أي العجز التجاري السنوي قيمته 42 ملياراً.
عدم وجود إحصائية بريطانية دقيقة عن الخسائر المترتبة على الخروج من الاتحاد الأوروبي، قد تتعمد لندن ذلك وفق بعض المراقبين من أجل تقوية ورقتها على طاولة المفاوضات في بروكسل. لكن دراسة ألمانية كشفت المستور وأشارت إلى أن خروج لندن من المظلة الأوروبية سيكبدها خسائر فادحة. ففي تقرير صادر عن منظمة «برتلسمان ستيفتونج» لفت إلى أن الخسائر البريطانية تقدر بنحو 224 مليار جنيه استرليني في حال طلاقها لبروكسل. الدراسة أشارت أيضاً إلى أن القطاعات البريطانية الأكثر تضرراً من الانفصال عن السوق الأوروبية الموحدة ستتمثل في الكيمياويات والخدمات المالية والسيارات والهندسة الميكانيكية.
ثالثاً: حرية تنقل البريطانيين داخل الاتحاد الأوروبي. ينعم البريطانيون بحرية التنقل والعيش في أيٍّ من الدول الأوروبية الثماني والعشرين. وأشارت التقديرات إلى وجود أكثر من أربعة ملايين بريطاني يعيشون في دول الاتحاد الأوروبي.
رابعاً: محاربة الجريمة على المستوى الأوروبي، بحيث يضمن نظام مذكرة التوقيف الأوروبية التحرر من الإجراءات المعتمدة بين الدول لاسترداد المجرمين، وبالتالي يمثل المجرمون أمام العدالة في جميع دول الاتحاد الأوروبي.
خامساً: التأثير على المسرح الدولي. بات السوق الأوروبي يعدّ من أكبر الكتل الاقتصادية في العالم، ويؤدي دوراً مهماً في التجارة الدولية والتغيير المناخي والمشاريع التنموية في العالم. وتؤدي المملكة المتحدة دوراً محورياً في الكتلة الأوروبية على المستويات كافة، على اعتبار أنها ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، وواحدة من أهم القوى العسكرية، فضلاً عن كونها عضواً في مجلس الأمن الدولي ودولة نووية عضواً في حلف شمال الأطلسي. من هنا وجدنا تمسك الولايات المتحدة الأميركية ببقاء حليفها المهم في أوروبا. بمعنى آخر، ترى الولايات المتحدة أن دور بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي أهم بالنسبة إليها من دورها خارجه، وهو بالتالي ما يعقّد الأمور بالنسبة إلى البريطانيين أنفسهم. فالشريك الأهم الآن في أوروبا هو الاتحاد الأوروبي، وليس بريطانيا، والأميركيون سيحرصون على استمرار الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في مواجهة قضايا سياسية كبيرة، بينما سينعدم تقريباً دور البريطانيين فيها في حال خروجهم من الاتحاد.
يظهر في النهاية أنه في ميزان الربح والخسارة قد تفرض التقديرات مراجعة الحسابات عند الطرفين، فالمصلحة المتبادلة بين لندن وبروكسل قد تفرض تعديلاً يتلاءم مع هواجس المملكة المتحدة التي سيشكل خروجها سيناريو مليئاً بالخسائر بالنسبة إلى كلا الطرفين. ومع هذا، تشير التوقعات إلى أن الخسائر قد تكون أكبر بالنسبة إلى المملكة المتحدة من خسائر الاتحاد الأوروبي. لكن أوروبا تركت الباب موارباً في مسألة تفهم المطالب البريطانية، فأظهرت ليونة قد تفسر في الاستجابة لإجراء بعض التغييرات مثل تقييد حصول المهاجرين الأوروبيين على الخدمات العامة في بريطانيا. لكن الخطورة تكمن في المسار الذي سيسلكه كاميرون في مقاربة أزمة العلاقة مع أوروبا، فهو في موقف لا يحسد عليه: إما التلاعب بما يراه مصلحة قومية للمملكة لإرضاء رغبات صقور حزب المحافظين المشككين بأوروبا، فيُفقد بلاده فرصة حجز مقعد أساسي في بروكسل، أو أن يتعرض للإطاحة من صقور حزبه على غرار ما حصل لمصير سلفيه، رئيسي الوزراء مارغريت تاتشر والسير جون ميجور، في حال تبنيه البقاء في النادي الأوروبي.