لطالما أشاعت الولايات المتحدة في السنوات التي سبقت اغتيال الشيخ أسامة بن لادن أنه لم يعد ممسكاً بقيادة تنظيم «القاعدة»، وأن مرضه أتعبه وأضعف قدراته العقلية، ما أبعده عن ساحة «الجهاد العالمي». فقد ذكرت وسائل الإعلام الأميركية أن الرجل الثاني، أيمن الظواهري، أصبح الرجل الأول في التنظيم، وأنه المخطط للعمليات التي نفذها أنصار «القاعدة» في العالم، لكن وبعد نشر الحكومة الأميركية أول من أمس 103 وثائق، وُجدت في المجمع الذي سكنه بن لادن في منطقة «أبوت أباد» في باكستان، تبين كذب ما سعى الأميركيون للترويج له على مدى سنوات.
فالشيخ كان مطلعاً على أوضاع «القُطر» الجهادية، بدءاً من أفغانستان مروراً بالعراق واليمن والصومال وليبيا، ووصولاً الى المملكة المغربية. أظهرت الرسائل المنشورة أن الشيخ كان عارفاً تفاصيل كل ساحة وجد فيها أنصاره، تواصل معهم، نصح بعضهم، طلب منهم بصفته أخاهم الأكبر، الكف عن استهداف مراكز الشرطة والجيش في اليمن والعراق، وضرب «أميركا رأس الأفعى».
في إحدى الوثائق المنشورة طلب بن لادن «عدم الدخول في دماء مع القبائل كما سبق أن ذكرنا». والشيخ العارف للعقلية القبلية اليمنية طلب «أن يكون أحد قادة التنظيم البارزين من الجنوب». أما في الاستراتيجية المفترض اتباعها في اليمن، فكانت «عدم استهداف الجيش والشرطة في مراكزهما، على أننا لا نريدكم، وإنما نريد الأميركيين الذين يقتلون أهلنا في غزة». ونقل الشيخ عطية أبرز مساعدي بن لادن عنه انه «يميل إلى أن الحرب في اليمن وفي جزيرة العرب مع النظام المحليّ المرتد فيهما، ليست مناسبة الآن، والواجب هو أن نوجّه كل طاقتنا وقدراتنا وإمكاناتنا إلى ضرب الرأس، وهو أميركا، وذلك بالتركيز على العمل الخارجي». وفي وثيقة أخرى، وتحت عنوان استراتيجية «القاعدة»، طلب بن لادن من أنصاره الكف عن استهداف المدنيين والقبائل في العراق، كي لا ينفر الناس عن التنظيم، والتركيز على الأهداف والمصالح الأميركية.

لا تصدر هذه الأفكار
والمشاريع عن رجل أضعف المرض قواه العقلية والإدراكية


ولم يقتصر اهتمام بن لادن، وذلك بحسب الوثائق، على الجانب العسكري والتنظيمي في الدول التي وجد فيها أنصاره وحسب، ففي رسالة الى الشيخ محمود قدم بن لادن مشروعاً اقتصادياً متكاملاً للصومال. طلب إرسال «وجهاء القبائل الموثوق بهم لزيارة بعض التجار في الخليج، وكذلك بعض العلماء ليطلعوهم على حال المسلمين في الصومال، وموت أطفالهم من شدة الفقر». وليطلبوا مساعدتهم على إنشاء مشاريع لرفع المياه «وما نحتاج إليه ليس سدودا بل هي نواظم (حواجز اسمنتية معترضة في مجرى النهر) لرفع مستوى الماء قليلاً ليدخل إلى الترع فتروى الأراضي. وفي ما يخص تفاصيل بناء النواظم، يمكن للإخوة أخذها من أحد مهندسي الري في الصومال، وإن لم يتيسر ذلك يمكنهم إرسال أخ إلى السودان ليزور مدينة كسلا، إذ كنا قد أنشأنا ناظما على ترعة متتيب».
بالطبع هذه الأفكار والمشاريع لا يمكن أن تصدر عن رجل أضعف المرض قواه العقلية والإدراكية، كما دأب الإعلام الأميركي على تصويره. ولم تظهر الوثائق المنشورة الجانب القيادي لبن لادن فحسب، ففي الفترة الأخيرة من حياته ازداد اهتمام «الشيخ» بعائلته، فأصر على انضمام ابنه حمزة إليه في المجمع. طلب من مساعديه السعي الى جلبه إليه، بالرغم من التحذيرات الأمنية التي أرسلها «الوسيط» المكلف تهريب ولده من إيران الى باكستان. ففي رسالة بتاريخ 5 نيسان 2011 مرسلة الى بن لادن، اعترض الشيخ محمود على تهريب حمزة في الوقت الحالي لأن «التفتيشات في هذه المدة على الطريق ازدادت واشتدت، والأمر خطرٌ جداً»، مقترحاً ارساله الى بلوشستان، و«هذا أسهل علينا».
إصرار بن لادن على مجيء ولده، رافقه شوقه الى إحدى قريباته (زوجته أو ابنته)، التي طلب منها في إحدى الرسائل ترك كل شيء خلفها في إيران والانضمام اليه. قال لها «أود أن تطمئنيني عن أخبارك التي لطالما انتظرناها وكنا في أشد الشوق لمعرفتها طيلة سنين مضت، ولاسيما بعدما وصلتنا البشرى السارة بخروجكم من إيران». وفي تسجيل فيديو، تغزل بن لادن بزوجته وتمنى عليها ألا تتزوج بعده في حال استشهاده، لأنه يريدها أن تكون معه في الجنة. وقد أظهرت إحدى الوثائق المفرج عنها علاقة «ابو عبدالله» بوالدته، ففي 15 رمضان أرسل بن لادن «إلى الوالدة العزيزة الغالية» رسالة طمأنها فيها إلى خروج حمزة وأمه وزوجته»، وسألها عن «عبد الله وعائشة وأسامة وسهام مهم متعبين أمهم مريم». وكحال الأبناء أخبر بن لادن والدته عن حاله وعن حلم رآه عن أفعى سوداء قتلها، وفي ختام الرسالة اعتذر بن لادن عن تقصيره في حق والدته، كما أرسل أبو عبدالله رسالة الى عمته إم خالد التي أخبرها بإرساله أجهزة آيبود وحواسيب للأطفال.
وقد وقّع بن لادن رسائله بأسماء عدة، أبرزها كان زمراي وأبو عبدالله وأسامة، وكانت هذه الأسماء توقع بحسب الجهة المرسل اليها، وإضافة الى الوثائق، أعلنت الحكومة عما وجدته من كتب ومقالات وبرامج في مكتبة بن لادن. وتبين وجود لعبة «دلتا فورس» الالكترونية، إضافة الى «موسوعة غينيس» لعام 2008 النسخة الخاصة بالأطفال. هكذا، وبرغم من كل حملات التشويه التي طاولت الشيخ، إلا ان الأميركيين بإفراجهم عن هذه الوثائق أظهروا الوجه الإنساني لـ«زمراي»، وجه لطالما حاولوا إخفاءه.