باريس ــ بسّام الطيارة
لا أحد يستطيع أن يعرف مسبقاً ماذا يُحضِّر الرئيس الفرنسي جاك شيراك من فخ لوزير داخليته نيكولاي ساركوزي، المرشح اليميني المعلن لرئاسة الجمهورية، لعرقلة انتخابه ومنعه من الوصول إلى قصر «الإليزيه». ولا أحد يعرف متى يبدأ شيراك هجومه المضاد، ولكن ما هو معروف ومحل إجماع هو أن الرئيس الفرنسي لن يترك وزيره ينعم طويلاً براحة حملة انتخابية من دون منافس معلن.
ويتحدث البعض عن رئيس الوزراء دومينيك دو فيلبان بصفته «مرشح آخر لحظة»، فيما يقول البعض الآخر بصعود نجم وزيرة الدفاع ميشال أليو ماري التي أطلقت خارج إطار حزب الأكثرية تجمعاً لمؤيديها وأنصارها تحت اسم «السنديانة» في إشارة بارزة إلى الرئيس وخبرته. ولا يستبعد آخرون أن يترشح شيراك شخصياً رغم مخاطر انقسام حزب اليمين من جراء هذه الخطوة ورفع حظوظ المرشح الاشتراكي، أياً كان هذا المرشح.
غير أن بعض المقربين من «سيد الإليزيه» ممن عرفوه طوال العقود الأربعة ونيف، التي مارس خلالها السياسة، يقولون إن «أفضل حليف لشيراك في الإيقاع بساركوزي هو ساركوزي نفسه». ويتابع هؤلاء قائلين إن «شيراك يعرف أن ساركوزي لا بد وأن يرتكب هفوة، لا بل هفوات» قبل أن تبدأ الحملة الانتخابية المقبلة.
ويشير البعض إلى أن المجال الأمني هو المستنقع الذي يمكن أن يغوص في مياهه العكرة ساركوزي، وأن شيراك عرف عندما سلّمه حقيبة وزارة الداخلية بأنه «لن يستطيع أن يحجم عن الانحراف يميناً» وتطبيق سياسة متصلبة إرضاءًً لليمين المتطرف وطمعاً بأصوات جان ماري لوبان.
ويبدو أن ما توقّعه شيراك بدأت معالم خطوطه ترتسم في الضواحي، حيث تتركز الأنظار على «معركة قوى بين وزير الداخلية وشرطته وأبناء الضواحي».
وجاءت الذكرى السنوية الأولى لمعركة الضواحي لتذكر ساركوزي بأن كل النقاط التي تظهرها استطلاعات الرأي لمصلحته يمكن لها أن تختفي بعد ليالي عنف في ضواحي باريس. ففي السنة الماضية أحرقت عشرة آلاف سيارة، فضلاً عن الخراب الذي سببته أعمال العنف في المخازن والشوارع، وها هو ظل العنف يعود إلى الضواحي. فمنذ يومين «احتفل» شبان ضاحية «ناتير» بالذكرى وقاموا بإحراق أربع حافلات وسط ذهول سكان المنطقة الذين وقفوا يتفرجون على «مجموعة مسلحين تخطف حافلةً» وتبتعد بها قبل أن تحضر قوات الشرطة، الأمر الذي يطرح سؤالاً عن نجاح ساركوزي أو فشله.
وعززت الحكومة الفرنسية أمس انتشار الشرطة لتأمين سلامة النقل العام في الضواحي، حيث تسبب موت شابين في 27 تشرين الأول من العام الماضي باندلاع أعمال شغب وعنف استمرت ثلاثة أسابيع. وفي هذه المناسبة، شارك نحو ألف شخص أمس في مسيرة صامتة في ضاحية كليشي ـ سو ـ بوا، شمال شرق باريس. ويقف وزير الداخلية ساركوزي أمام طريقين لا ثالث لهما: إما أن يطبق سياسة أكثر تشدداً ويحشد عدداً أكبر من رجال الشرطة في الضواحي «التي لا ترحب بحضور أمني مكثف» لأسباب عديدة، منها تهمة العنصرية التي تلازم رجال الشرطة، أو يقرر التراجع عن سياسته المتشددة والتراخي بانتظار مرور الانتخابات حتى لا يثير الجاليات الإسلامية والأفريقية وجمعيات حقوق الإنسان، فيسحب القوات التي حشدها في الضواحي والتي يقول البعض إنها تساهم بحضورها المكثف في صب النار على حريق لم يخمد بعد. ولكن إذا اختار ساركوزي الحزم فهو يعرف أنه ذاهب نحو مواجهة تشعل الضواحي للسنة الثانية من تسلّمه حقيبة الداخلية، الأمر الذي لا يعدّ جيداً لمرشح لرئاسة الجمهورية، وخاصة أن أصوات المهاجرين حاملي الجنسية الفرنسية والمقربين منهم مثل مناهضي العولمة الذين ينتقدون الاستكانة إلى العنف فقط لمعالجة أزمة الضواحي، يمكن لها أن تكون مؤثّرة في الدور الثاني من الانتخابات.
وفي حال اختيار ساركوزي الليونة في تعامله مع اضطرابات الضواحي، فهو من جهة لا يضمن أن تهدأ الأمور، إذ يمكن أن يفسر «شباب الضواحي» هذه الليونة بضعف الدولة والوزير خاصة، ومن جهة أخرى، التراجع عن السياسة الحديدية التي يحاول تطبيقها، يبعد عنه الجناح اليميني من الرأي العام ويرميه في أحضان التطرف اليميني ممثلاً بجان ماري لوبان الذي يراقب «بلذة مأزق وزير الداخلية» وينتظر لقطف ثمار تردده.
وكذلك يراقب شيراك «بلذة» أيضاً تأرجح وزيره بين الحزم الذي يؤجج العنف والليونة التي تزيده، ولا يتردد بعض المراقبين في الحديث عن «مكر شيراك» الذي ينتظر أن يحترق ساركوزي في نيران الضواحي.