strong>معمر عطوي
يبدو واضحاً أن القوى الغربية المعنية بوضع مسوّدة قرار عقوبات مشددة ضد إيران، على خلفية برنامجها النووي، عاجزة عن التوصل الى اتفاق على طبيعة هذه العقوبات حتى الآن. بل أكثر من ذلك، تواجه الصيغة الجديدة للقرار المُرتقب مشكلات متشعبة ناشئة إمّا عن خوف من أن تكون العقوبات مقدمة لحرب تطيح المصالح الاقتصادية لبعض الدول الغربية في المنطقة، أو أن تصبح بمثابة محاولة لتنفيس احتقان أميركي يضع خيار الحرب جانباً

مما لا شك فيه أن المشاورات التي تجري بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة الى ألمانيا، لبتّ رزمة جديدة من العقوبات المالية والاقتصادية المُشددّة على إيران، تشهد تباينات كبيرة بين دول مصرة على إقرار أشد العقوبات مثل أميركا وفرنسا وبريطانيا، وأخرى مترددة مثل ألمانيا، التي تدعمها دول أوروبية من خارج مجموعة (5+1)، وبين دول معارضة تماماً لخطوة كهذه مثل الصين وروسيا.
ويستطيع المراقب تفهُّم طبيعة الموقف الروسي، إذا ما علم أن حجم التبادل التجاري بين طهران وموسكو قد بلغ حالياً ما يقارب ملياري دولار، فيما تعمل الآن في منطقة بوشهر الايرانية الجنوبية زهاء 300 مؤسسة وحوالى ألفي خبير من روسيا. موقف معارض للسياسة الاميركية، لم يتغير رغم زيارات المسؤولين الاميركيين الى موسكو، مصحوبين بإغراءات اقتصادية وسياسية، ورغم محاولات فرنسا تليين موقف قادة الكرملين، عقب تصريحات مسؤوليها عن «توقع الاسوأ» في الملف الإيراني.
فالعلاقات الروسية الإيرانية شهدت تحسناً كبيراً منذ تولى الرئيس فلاديمير بوتين مقاليد الحكم عام 2000، إذ ارتفع حجم التبادلات التجارية بين البلدين، ولا سيما في المجال العسكري، حيث بلغت مبيعات الاسلحة الروسية للجمهورية الاسلامية حوالى 6 مليارات دولار.
ومع ذلك، لا يمكن وصف العلاقة بين موسكو وطهران سوى بـ«زواج مصلحة»، إذ إن روسيا، الحريصة على بقاء هذا العلاقة المُربحة اقتصادياً، لم تألُ جهداً في تحويل الملف النووي الإيراني الى ورقة من شأنها تحسين شروط الكرملين في منافسته مع الغرب، بينما تقوم في الوقت نفسه، بالضغط على طهران من خلال المماطلة في استكمال بناء مفاعل بوشهر. وهذا إن دل على شيء فهو يعبّر عن موقف موسكو الرافض لامتلاك دولة تحمل أيديولوجية إسلامية تقع على حدودها، للقنبلة الذرية.
أمّا بالنسبة الى الصين، فقد شهدت في الفترة الأخيرة توقيع عقد استثماري بقيمة 6‚3 مليارات دولار لتطوير واستثمار حقل غاز في جنوب إيران. ويتوقع أن تستورد بكين نحو 10 ملايين برميل يومياً من النفط و30 في المئة من الغاز الإيراني بحلول العام 2030، لتصبح إيران ثاني أكبر مزود للصين بالنفط. أما قيمة التبادل التجاري بين بكين وطهران فقد ارتفعت من 3‚3 مليارات دولار عام 2001 إلى 14 ملياراً عام 2006.
في المقابل، تبدو فرنسا، في علاقتها مع إيران، أقرب إلى صقور البيت الأبيض. ومنذ وصول ساركوزي الى السلطة، باتت أقرب الى المصالح الاميركية، ربما في محاولة لتعويض ما خسرته من مكاسب نتيجة معارضتها غزو العراق. ولم يأخذ الإليزيه بالاعتبار حجم الاستثمارات الفرنسية في إيران، التي تقدر بمئات ملايين اليوروات، حيث تعمل شركات فرنسية عملاقة للنفط والغاز على غرار «توتال» و«غاز دوفرانس»، وشركات سيارات مثل «رينو» و«بيجو».
أما بريطانيا فتبدو في ظل رئيس الوزراء الجديد غوردون براون، أكثر حذراً بعد تراجع شعبية حزبه (العمال) بسبب التورط في المستنقع العراقي.
في هذا السياق يظهر التمايز الألماني واضحاً، إذ تبدو برلين، ومن خلفها بعض عواصم الاتحاد الاوروبي مثل روما ومدريد، مترويّة في شأن عقوبات أشد على إيران.
ولعل هذا التروّي مصدره ما رشح عن بيانات المفوضية الأوروبية من أن 27.8 في المئة من التعاملات التجارية لإيران في العام 2006 كانت مع الاتحاد الاوروبي، الذي أصبح أكبر شريك تجاري للجمهورية الإسلامية.
وقد انفردت برلين بالتحفظ على إحالة ملف إيران النووي تلقائياً إلى مجلس الأمن، مفضلةً بقاءه في الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا، فيما تفيد بيانات مكتب الإحصاء الاتحادي أن ألمانيا صدّرت سلعاً قيمتها 4.1 مليارات يورو لإيران في العام الماضي، بينما صدرّت إيطاليا سلعاً قيمتها 1.9 مليار يورو.
وكان المصرفان الألمانيان «دويتشه بنك» و«كوميرتس بنك» وغيرهما من المصارف، قد أوقفت تعاملاتها المالية مع إيران، بضغط أميركي. لكن المصرفين المذكورين، اللذين كانا قد وضعا الى جانب شركتي «باسف» و«سيمنز» الألمانيتين ضمن قائمة أميركية ضمت المؤسسات التي ترتبط بعلاقات تجارية واستثمارية مع «الدول المارقة»، وصفا القرار الاميركي بـ«المبتز»، مطالبين حكومة برلين بوضع خطوط إرشادية ألمانية أو أوروبية تتولى في المستقبل التصدي للضغط الأميركي.
لعل سبب هذا الاستياء الألماني يوضحه إعلان المكتب الألماني للتجارة الخارجية، أول هذا الشهر، أن الصادرات إلى إيران على مدى الشهور السبعة الأولى من العام الجاري تراجعت بنسبة 18 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
يبقى السؤال الاساسي الذي يطرح نفسه أمام هذه المعطيات، هو مدى إمكان توصل هذه الدول الى حل وسط يردع طهران عن السير في طموحاتها النووية، التي أصبحت أشبه بـ«فوبيا» للغرب، وفي الآن نفسه يحفظ مصالحها لدى بلد يزيد عدد سكانه على سبعين مليون مستهلك.