توحي الأجواء في العراق اليوم، أنّ خشية حكّام بغداد، هو ألا توافق الولايات المتحدة على توقيع الاتفاقية الطويلة الأمد مع بلاد الرافدين، لا العكس. فالجانب العراقي الرسمي، لا يتمنى بالتأكيد مثل هذا الموقف «الخيالي»، لأنه سيعني تمديد ولاية «القوات المتعدّدة الجنسيّة» تحت الفصل السابع، أو «الانسحاب»... ما يعني انسحاب الحكومة معه
بغداد ــ زيد الزبيدي

يرى عدد كبير من المراقبين العراقيين أنّ الولايات المتحدة هي التي أوصلت العراق إلى حالته الراهنة، من خلال رفضها جدولة الانسحاب، وبناء مصالحة وطنية حقيقية، وقوات مسلحة مبنية على أسس مهنية، وما سبق ذلك من حلّ القوات المسلحة، وتدمير ونهب أسلحتها ومعدّاتها، إضافة الى إشعالها، أو على الأقلّ، السكوت عن اندلاع الاحتراب الطائفي والعرقي...
ويرى هذا البعض أنّ الانسحاب الأميركي سيكون في ظلّ هذا الوضع، لمصلحة استمرار الحرب الأهلية، أو لمصلحة إيران التي سبق أن طرحت نفسها على لسان رئيسها محمود أحمدي نجاد، بديلاً لملء الفراغ في حال الانسحاب الأميركي.
وفي ما يتعلق بالجانب العراقي، يكاد يكون هناك شبه إجماع لدى قوى العملية السياسية، على أن الاتفاقية باتت «أمراً واقعاً»، وأنّ كل ما يدور الآن من حوارات بشأنها، لا يتعدى كيفية استخدام «الماكياج»، لتبدو بشكل مقبول، وليبدو الجانب العراقي المفاوض، كأنه حقق منجزات كبرى، وانتصارات «لا تستطيع غير هذه الحكومة تحقيقها».
وبحسب رأي الجهة التي كان يفترض أن تكون الأكثر عداءً «للإمبريالية»، والمتمثلة بالحزب الشيوعي، فإنّ الجانب العراقي المفاوض يجب أن يضمّ مجموعة من خبراء القانون الدولي والسياسيّين الأكفياء، «من أجل الحصول على أكبر قدر من التنازلات من الجانب الأميركي» على حدّ تعبير سكرتير الحزب والنائب حميد مجيد موسى.
ويدرك العراقيون جيداً أنّ المسعى الأميركي الأهم يبقى ربط الاقتصاد العراقي بالاقتصاد الأميركي المعولَم، وتحويله كلياً إلى اقتصاد السوق الرأسمالي، وحتى تحويل العملة العراقية إلى الدولار، وهذا ما يجري حالياً تدريجياً، من خلال خفض سعر الدولار أمام الدينار، ليستقر عند 1000 دينار للدولار الواحد. وبعض خبراء الاقتصاد واثقون من حذف الأصفار الثلاثة قريباً... أي إنّ المخطّط الأميركي اقتصادي بالأساس، وهدفه يبدأ من العراق وإيران وأفغانستان أي «طريق الحرير» سابقاً، لمحاصرة دول جنوب آسيا نفطياً، وهذا يتطلب بالطبع وجوداً عسكرياً قوياً.
أمّا عما يُوصَف في الإعلام بأنه «خلافات» بين الطرفين، فهي شكلية؛ فالمتحدّث باسم الحكومة العراقية علي الدباغ ينفي تضمن الاتفاقية إقامة قواعد عسكرية، ويسمّيها «مجرد معسكرات لإقامة الجنود». بينما مستشار رئيس الوزراء، حيدر العبادي، يقول إن العراق سيطالب ببدلات إيجار في حال إقامة مثل هذه القواعد العسكرية!
أمّا المسألة الأكثر حساسية، وهي صلاحيات القوات الأميركية داخل العراق، فتلك مسألة مطاطة جداً، وتضمّنها «إعلان المبادئ» بين جورج بوش ونوري المالكي قبل أشهر، في فقرة «حماية أمن العراق خارجياً وداخلياً». صلاحيات، الغاية منها البقاء لحماية الحكومة «التي يريدها الأميركيون».
حتى حول موضوع التنسيق مع الجهات العراقية في حالات الاعتقال وشنّ العمليات العسكرية، فإنّ معظم الحالات حالياً تجري بالتنسيق مع «الجهات العراقية»، على حدّ قول الاميركيّين.
وبين النفي وبدل «الإيجار» في موضوع القواعد، فإنّ الأرقام التي ذكرت فيها شيء من المبالغة على ما يبدو، لأن الرقم 50 الذي ذكرته صحيفة «إندبندنت» البريطانية كبير جدّاً، وربما احتُسبت ضمنه المعسكرات التي أشار إليها الدباغ. إلا أنّ الحديث الجدّي خلف الكواليس يلفت إلى 13 قاعدة كبيرة، خمس منها في وسط البلاد، وسبع في مناطق الجنوب والشرق والشمال.
إلا أنّ الخطورة الرئيسية في إعلان الاتفاقية، في هذا الوقت، تكمن في الموقف الإيراني، الذي بقي حتى وقت قريب صامتاً إزاء الاتفاقية، خشية فقدان الحليف المتمثل بالأطراف الرئيسية في الحكومة، أو انشقاقها على بعضها، وهذا ما بدأت تأشيراته تظهر بعدما أعلنت طهران رفضها للمعاهدة.
وجاءت زيارة السفير الأميركي ريان كروكر إلى كربلاء والنجف، وإعلانه افتتاح مكتب الإعمار الأميركي في النجف، مقرّ المرجعيّة، ومشاريع استثمارية ضخمة، في خطوة مهمة «لاحتواء المرجعية» و«المجلس الأعلى الإسلامي». وأكثر ما أثار الانتباه في هذه الزيارة، شبه إعلان كروكر لـ«تشيّعه»، عندما تبرّع بمبلغ خمسة ملايين دولار للمواكب الحسينية في «زيارة الأربعين» الأخيرة، ما أثار تساؤلات عن متى كانت الديموقراطية الأميركيّة راعية للّطم، وضرب «الزناجيل»؟
وإضافة إلى «ملايين اللطم»، أعلن كروكر أنّ الولايات المتحدة «أنفقت في محافظة النجف منذ عام 2003 أكثر من 250 مليون دولار، تتعلق برفد البنى التحتية ودعم الاقتصاد»!
ولم يبيّن كروكر كيفية إنفاق هذا المبلغ الضخم في مدينة صغيرة ما زالت تفتقر إلى أبسط الخدمات، حتى إنّ الشرطيات تظاهرن الأسبوع الماضي مطالبات بصرف رواتبهن المتوقّفة منذ أكثر من عام.
وترافقت مع خطوات كروكر، جسّ نبض إعلامي أشار إلى أن السيد علي السيستاني «أجاز» في ردّ على استفسار نشر على موقعه الإلكتروني، «مقاومة الاحتلال»، ما دفع مكتبه إلى المسارعة بالنفي، متهماً النظام السابق بأنه أضعف إمكان المقاومة، وأنّ الحلول السلمية هي المناسبة الآن، موضحاً أنّ الحكومة تقوم بذلك.
وأعقب ذلك، انتقادات وجّهها مسؤول «المجلس الإسلامي الأعلى» في النجف، وخطيب جمعتها، صدر الدين القبانجي، لتدخل «جهة إقليمية» في شأن عراقي بإعلان رفضها للاتفاقية، التي وصفها بأنها خطوة لإنهاء الاحتلال.
الولايات المتحدة استطاعت أن تشقّ الصف الشيعي الأكثر التصاقاً بإيران، بعد أن شتّتت الائتلاف الشيعي، وبالتالي يبدو واضحاً مسعاها لسحب المرجعية من إيران إلى العراق، وعزل طهران عن الظهير القريب الذي كانت تستند إليه، وهو ما يترافق مع محاولات أخرى لعزل الجمهورية الإسلامية عن سوريا وغيرها... ما يدفع البعض إلى اعتبار أنّ الاتفاقية أداة لضرب إيران، ابتداءً من عزلها عن المحيط الذي تستند إليه.