الاحتلال عطّل اعتماد بغداد «الأمثولة الإيرانيّة»... وحضور روسي وصيني خجول طوني صغبيني لم تكتمل فرحة عمالقة الصناعة النفطية العالمية. فرغم فتح باب استثمار ثلاثة حقول من أكبر احتياط نفطي في العالم، لا تزال بغداد مترددة في توقيع عقود المشاركة التي تعيد الذهب الأسود العراقي إلى سطوة الكارتيلات الكبرى. يبدو أن خمس سنوات من الاحتلال كانت كافية لتهيئة الأجواء لعودة عمالقة النفط الغربيين، بعد إبعاد قسري دام أكثر من ثلاثة عقود؛ فالحكومة المركزية لم تطق انتظار إقرار قانون النفط العراقي، العالق في أدراج مجلس النواب منذ نحو ثلاث سنوات، كي تشرع في توقيع العقود النفطية العملاقة.
وزير النفط حسين الشهرستاني، أعلن الأسبوع الماضي، فتح مجال توقيع العقود في ستة حقول، تعتبر العمود الفقري لإنتاج النفط العراقي، أمام الشركات الأجنبية. لكن الوضعية القانونية للعقود المزمعة لا تزال غامضة، إذ إن بعض العقود الفنية القصيرة والطويلة الأجل، أبرمت وفقاً لقانون قديم للنفط كان قائماً في ظلّ النظام العراقي السابق. الشهرستاني أكد أن العقود الكبرى الجديدة لن توقّع قبل حزيران العام المقبل، في تلميح إلى أنها ستبرم في ظلّ قانون النفط الجديد. لكن وسط شكوك جديّة في احتمالات إقرار قانون النفط بحلول ذلك التاريخ، أشار مراقبون إلى غموض في كلام الشهرستاني حول كيفية توقيع العقود والموافقة عليها وعلاقتها بمجلس النواب وقانون النفط وحصّة الأقاليم. فهو أكد أن مجلس الوزراء هو من سيوافق أو ينقض العقود، التي لن يُصوَّت عليها في مجلس النوّاب، رغم تسليم نسخة عنها للجنة الطاقة فيه لإبداء رأيها.
وفيما يطرح ذلك تساؤلات عن تغييب الرقابة البرلمانية عن قطاع يمثّل المدخول الرئيسي للبلاد، لم تكن هناك أيضاً أي إشارة لدور «المجلس الاتحادي للنفط والغاز» المزمع تأليفه في ظلّ قانون النفط الجديد، الذي يضمّ ممثّلين عن الحكومة المركزيّة وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة والمستثمرين، في توليفة غريبة لها صلاحية نقض العقود الموقّعة.
أما نوع العقود فيطرح إشكالية أخرى. فمن المعروف وجود أنواع عديدة من العقود النفطية، تبدأ من تلك التي تقتصر على استئجار شركة لتقديم خدمات فنّية محددة، وصولاً للعقد الذي يعطي الشركة حصة من النفط، يحقّ لها التصرف بها بالكامل، وهو العقد المعروف باسم عقد المشاركة.
وعقد المشاركة هو الاتفاق بين الحكومة والشركة، على أن تقوم الأخيرة بتوفير الأموال والمستلزمات الفنية لكامل عملية الإنتاج، بدءاً من الاستكشاف والتنقيب، وصولاً إلى الحفر واستكمال الأبنية وتجهيز الحقل لنقل الإنتاج وبدء الاستخراج، مقابل أن تأخذ الشركة كامل الإنتاج لحين استرجاع المبالغ التي صرفتها، ومن ثمّ يجري تقاسم النفط الباقي بين الدولة والشركة بنسب تتفقان عليها، وتصل أحياناً إلى 60 و90 في المئة لمصلحة الشركة. ويحقّ للشركة بيع نفطها أو التصرف به كما تشاء على أنه ملكها، في مقابل ضريبة تدفعها للدولة على الربح النفطي.
الشهرستاني أيضاً، أكد في إعلانه النفطي المذكور، أن «العقد النموذجي الذي سيعلنه العراق سيكون عرض خدمة لا عقد مشاركة بالإنتاج، لأن العراق صاحب هذه الثروة، وعليه لا نسمح لأحد بمشاركة العراقيين في نفطهم». هذا الموقف، أخّر حتى الآن توقيع عقود طويلة الأمد في الحقول الكبرى، في ظلّ تصميم الشركات على الحصول على عروض المشاركة بالإنتاج.
وإذا وضعنا مسألة نفوذ الاحتلال في وزارة النفط جانباً، فإن إصرار الحكومة على الموقف من العقود، قد لا يكون نابعاً هذه المرّة من مزايدات سياسية اعتادت الكتل العراقية عليها منذ الغزو حتى اليوم. فمن جهة هناك ضغوط معنوية في الصناعة النفطية العراقية، قد لا يمكن الحكومة تجاوزها، ومنها ما هو نابع من الرأي العام العراقي، الذي رغم انقساماته لا يزال معارضاً بشدة لفكرة سيطرة الشركات الأجنبية على ثروته الكبرى. والبعض الآخر نابع من الجسم العريض من الكوادر العراقية العاملة سابقاً في الصناعة النفطية، والتي لا يمكن ترميم الصناعة النفطية العراقية من دون أخذها بالاعتبار، وهي غير ميّالة لوجود الشركات الأجنبية.
من جهة أخرى، فإن الاتجاه لرفض عقود المشاركة، يتعاظم أكثر فأكثر في كلّ البلدان المصدّرة للنفط، التي ترغب في إحكام السيطرة على صناعتها في ظلّ ارتفاع الأسعار الجنوني للذهب الأسود، ومنها السعودية ودول الخليج، حيث يكاد ينقرض تعبير عقود المشاركة من قاموسها الصناعي.
وفي مقابل رفض عقود المشاركة، تبرز دعوات عراقية نقيضة، ترى أن ضمانة التطور النفطي تكمن في الاعتماد بأكبر قدر ممكن على عقود المشاركة، وهي التي عبّر عنها نائب رئيس الوزراء برهم صالح، على اعتبار أن هذه العقود «تضمن زيادة المنافع والإيرادات لأقصى حدّ للشعب العراقي».
وفيما يثير رأي صالح بهجة الشركات الغربية الكبرى، يمثّل رفض عقود المشاركة جزءاً من سياسة أكثر تعارضاً مع مصالح الشركات الغربية والاحتلال من ورائها. والداعون إلى هذه السياسة يريدون خطّة تقوم على الاتكال على شركات النفط في المساعدة التقنية فقط، ثم التخلي عن الشركات ريثما يبلغ الإنتاج نسبة معينة كافية لسدّ الميزانية والاحتياجات العراقية، بعد أن تصبح القدرات الفنية للإنتاج في متناول العراقيين.
يترافق ذلك، مع دعوة للابتعاد عن الشركات الأميركية، وهو ما عبّر عنه الاختصاصي في شؤون النفط، فؤاد قاسم الأمير، لأن اللوبي النفطي في الولايات المتحدة قوي جداً، ومؤثر على قرار واشنطن، ويريد أن تبقى العسكريتاريا الأميركية موجودة دائماً إلى جانبه، وسيسبّب ذلك أزمة مزمنة لبلاد الرافدين لا تنتهي إلا بنضوب النفط.
وتنادي هذه النظرة بتنويع مروحة الشركات المتعاقدة مع بغداد، والاعتماد خاصة على الأوروبية والصينية والروسية، التي تمثّل دولها سوقاً طبيعياً للنفط العراقي، والتي يمكن أن يؤدي انخراطها النفطي دوراً في دعم العراق في مجلس الأمن والمحافل الدولية حيث تمتلك الفيتو والتأثير.
هذا ما يمكن تسميته «الأمثولة الإيرانية»، حيث ساعد الوجود المكثّف للاستثمار الصيني والروسي على تأخير قرارات العقوبات في مجلس الأمن والتقليل من تأثير العقوبات، وهو ما حاول صدّام حسين القيام به أيضاً قبل الغزو.
لكن كلّ الدعوات هذه تفرّغ من مضمونها بسهولة، تحت وطأة نفوذ المستشارين الأميركيين، المتسللين منذ الغزو إلى دهاليز الصناعة النفطية في العراق. فبعد الغزو بفترة قصيرة، كلّفت الإدارة الأميركية مجموعة من المستشارين من وزارة الخارجية والاقتصاد والطاقة والداخلية الأميركية، بالعمل مع وزارة النفط العراقية لتقديم «المشورة».
وكشفت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية أخيراً عن أن الشركات النفطية الغربية، وبالتحديد البريطانية والأميركية، تملك منذ سنتين مستشارين في وزارة النفط العراقية، لا يتقاضون الأجور من بغداد. ومعظم المستشارين الحكوميين كانوا أيضاً إداريين سابقين في شركات نفطية أميركية، وأحد الأشاص المشهورين في هذا المجال كان المدير السابق لأعمال شركة «شل» في الولايات المتحدة، فيليب كارول، الذي أرسلته وزارة الدفاع الأميركية «بنتاغون» إلى نظيرتها النفطية العراقية.
وبحسب مصادر أميركية عديدة تحدثت لـ«نيويورك تايمز»، فإن المطلوب من كارول كان ضمان إبعاد الشركات التي كانت تملك علاقات جيدة وعقود استثمارية مع صدام حسين عن النفط العراقي، وتأمين وصول الشركات الأميركية إليه. وبالفعل، بعد خمس سنوات من «الاستشارة» الأميركية، رفضت وزارة النفط العراقية الإقرار بحقوق لشركة «لوك أويل» الروسية استناداً إلى عقود سابقة وقّعتها مع صدّام حسين.
وتظهر مقارنة بسيطة بين الشركات الأجنبية المستثمرة في النفط العراقي قبل الغزو وبعده، كيفيّة انقلاب الأدوار في هذا المجال. ففي أيار من عام 2001، أصدرت لجنة «تنمية سياسة الطاقة القومية»، برئاسة نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، لائحة من 40 شركة من 30 بلداً تظهر كل الشركات التي حصلت، أو هي في صدد الحصول، على عقود نفطية مع بغداد، ولا تتضمّن أي شركة بريطانية أو أميركية. وخلص وقتها إلى التحذير من أن النقص في إمدادات النفط الأميركية «يهدّد اقتصادنا ومستوانا المعيشي وأمننا القومي».
أما اللائحة الجديدة التي نشرتها وزارة النفط العراقية للشركات الـ40 المؤهلة لغنم صفقات نفطية، فهي مكوّنة بغالبيتها من شركات بريطانية وأميركية كـ«شلّ» و«بريتيش بتروليوم»، وتلك الأوروبية التي رفعت مستوى تعاونها في فرض العقوبات على إيران كشركة «توتال» الفرنسية، في ظلّ حضور صيني وروسي خجول.
وفيما غنمت الشركات الغربية كلّ العقود الفنّية حتى الآن، التي تمثّّل موطئ قدم شديد الأهمية للدخول إلى الصناعة النفطية، لا تزال الشركات الروسية والصينية على لائحة الانتظار.
بعد ذلك كلّه، لا يبدو أن بوادر ما هو آت من عقود، يحمل بشائر خير للنفط العراقي، فالصحراء المضرجة بالذهب الأسود تسيل لعاب عمالقة النفط في العالم، وهي شهيّة لا اعتبارات سياسية أو إنسانية أو أخلاقية لها.