موسكو | رحب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بـ»الموقف الأوروبي» الجديد لأول مرة منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية. كان ذلك عشية مجيء المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى موسكو، الذي صرح بأن هدف زيارتهما للكرملين هو تلافي نشوب حرب شاملة في دونباس.بيد أن المراقبين لا يرون في تفعيل السياسة الأوروبية المحموم والمفاجئ في الاتجاه الأوكراني عودة للوعي إلى العقل الأوروبي، ويعزون ذلك إلى الهجوم المضاد والكاسح، الذي بدأته في الأسابيع الماضية قوات جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك غير المعترف بهما، والذي أدى في البدء إلى السيطرة الكاملة على مطار دونيتسك الدولي، وانتهى بالسيطرة على نحو 1500 كيلومتر مربع من الأراضي، ومحاصرة نحو 10 آلاف من العسكريين الأوكرانيين في مدينة ديبالتسيفو.

ويرى الخبير الروسي في الشؤون الأوكرانية والبيلاروسية بوغدان بيزبالكو أن الطوق حول ديبالتسيفو قد أُحكم الآن على 40% من الجيش الأوكراني، بما في ذلك الأسلحة الثقيلة.
وشبه المحلل السياسي الروسي المستقل سيرغي ميخييف، ميركل وهولاند ومعهما وزير الخارجية الأميركي جون كيري بفرقة إطفاء هرعت لإنقاذ الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو.
ويؤكد ميخييف أن أسبوعين أو ثلاثة أخرى من المعارك الناجحة، ستكون كافية لانهيار النظام الجديد في كييف.
ويؤكد مراقبون أن مجيء ميركل إلى «الطاغية المتخلف» فلاديمير بوتين بعد عام من التعنت لمحاولة احتواء الحريق الأوكراني يُعَدّ انتصاراً للأخير، وأن الكرملين نجح في دق إسفين بين أوروبا وواشنطن، التي استبعدتها موسكو عن أداء دور الوسيط، ما دفع جون ماكين إلى تشبيه استراتيجيا ميركل الجديدة إزاء الكرملين بالاستراتيجيا التي اتُّبعت إزاء أدولف هتلر في الثلاثينيات من القرن الماضي.
كذلك دبّ الخلاف بين الأوروبيين بشأن العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا؛ فإسبانيا مثلاً، وبعكس بولندا وبريطانيا، اللتين تؤيدان تأجيج النزاع في دونباس وتوريد الأسلحة إلى القوات الأوكرانية، تقف ضد العقوبات، التي كلفت القارة العجوز 21 مليار دولار من الخسائر، وفق وزير الخارجية الإسباني.
أما تكتيكياً، فبوتين ـ بفضل المبادرة الفرنسية الألمانية ـ يربح الوقت، على أي حال، بانتظار أن تصبح الحالة الاقتصادية في أوكرانيا على شفا الانهيار، ما سيؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى اندلاع انتفاضة جديدة ضد السلطات الأوكرانية.
غير أن أكبر انتصار أحرزه بوتين بعد عام من «انتفاضة الميدان» الأوكرانية كان تصريح ميركل وهولاند بأن أوكرانيا لا مكان لها في حلف شمال الأطلسي، وكذلك في الاتحاد الأوروبي، كما أكد الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي.
كذلك ستفقد كييف جزءاً آخر من أراضيها يقدر بـ50-60 كيلومتراً مربعاً سينزع منه السلاح، حسب الخطة الألمانية الفرنسية، التي كشف عن بعض منها هولاند وصحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، إضافة إلى حصول دونيتسك ولوغانسك على وضع خاص ومزيد من الصلاحيات في إطار أوكرانيا، ما يعني أن شرق البلاد سيبقى شكلياً تحت سلطة كييف، ولكن الكلمة هناك ستكون لموسكو رغم إمكان نشر قوات حفظ سلام دولية للفصل بين طرفي النزاع.
وفي ضوء رفض الخيار الشيشاني، الذي تؤكد مصادر أن موسكو اقترحته، والذي يقضي بضخ الأموال إلى دونباس مقابل ولائها للمركز، فإن من المربح الآن لموسكو تجميد النزاع لعدة سنوات، كما حصل في جمهورية ترانسنيستريا المولدوفية، التي تتمتع باستقلال فعلي من دون الاعتراف بها.
هذا، واستبعد نائب مدير معهد رابط الدول المستقلة فلاديمير جاريخين، أن تدور المفاوضات المرتقبة لرباعية النورماندي اليوم الأربعاء في العاصمة البيلاروسية مينسك حول القضايا الدولية والعلاقات الأوروبية أو حول مستقبل أوكرانيا، إذ «إن جميع الأطراف تدرك أن المهم الآن هو تجميد النزاع لمدة طويلة ووقف العمليات الحربية»،
ما يعني أن الأمر سينتهي بسلام مؤقت في دونباس.
على صعيد آخر، لا ينبغي نسيان أن محاولات الجانب الأميركي لن تكل لتسعير النزاع في البيت الأوروبي، ولا سيما أن التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي لا يتعدى 10 مليارات دولار، وزحف الناتو شرقاً لا يزال جارياً على قدم وساق إلى حدود روسيا.
وفي ضوء ذلك، صرّح رئيس مجلس الأمن القومي الروسي نيقولاي باتروشيف أمس بأن واشنطن تستخدم الأحداث في أوكرانيا لجرّ روسيا إلى نزاع عالمي وإضعافها وتفكيكها.
وربما لذلك جاءت مبادرة ميركل وهولاند في هذا الوقت بالذات، لأن السياسيين الأوروبيين أدركوا في نهاية الأمر أن الوضع الدولي قد يخرج عن السيطرة بفعل الغرور الأميركي، وبخاصة في ضوء تذكير بوتين غير مرة بأن روسيا دولة نووية ولن تخضع للابتزاز، وأن الأوروبيين هم الذين سيدفعون الثمن.