يُعرف عهد الإمبراطورة كاثرين العظيمة، الذي امتدّ 25 عاماً وانتهى عند تخوم القرن التاسع عشر، بأنه «العصر الذهبي» لروسيا القيصرية. خلاله، وسّعت البلاد الشرقية سيطرتها جغرافياً وتأثيرها أوروبياً، حيث أضحت تُصنّف بين القوى العظمى في القارة العجوز.رغم سلطتها حاولت كاثرين أن تزرع بذور الديموقراطية في المجتمع الفلاحي، في طموح لتأسيس مستقبل يحاكي الحركة الثقافية التحريرية في أوروبا الغربية؛ ورسائلها مع فيلسوف وكاتب النهضة الفرنسية/الأوروبية، فولتير، تُظهر مدى حماستهما لنقلة كهذه في بلاد القياصرة.

«سرعان ما اكتشفت أنّ ذلك غير ممكن»، يُعلّق نائب رئيس الوزراء الروسي إيغور شوفالوف، في إطار مقاربته التاريخية لمسألة الحرية والديموقراطية في روسيا. «صحيح أن بعض إجراءاتها أرضت الأقليات، مثلاً أهل تترستان عشقوها لأنها سمحت لهم ببناء مآذن أعلى، ولكن برنامجها الإصلاحي كان محكوماً بالفشل نظراً إلى مستوى مسؤولياتها الأعلى».
يُعدّ تحليل هذا المسؤول الروسي لتلك الحقبة حاسماً نظراً إلى أنه درسها لعامين في الجامعة في إطار عمله الأكاديمي. ولكن الأهمّ في مقاربته التي قدّمها في جلسة حوار حول «أفق روسيا في عام 2015» على هامش مؤتمر دافوس، نهاية الأسبوع الماضي، وجمعت ثلّة من المعنيين بالشأن الروسي، هو صداها في المرحلة الحالية.
العقوبات لن تلوي ذراع فلاديمير بوتين والشعب الروسي لن يدير ظهره للتحديات الخارجية

المسؤوليات العليا فرضت على المرأة الروسية الأقوى تجنّب تفسّخ أسس المجتمع الروسي، في ظلّ التحديات الهائلة الماثلة على الجبهة الخارجية. برأي شوفالوف، فإن الوضع نفسه ماثل اليوم أمام الرئيس فلاديمير بوتين. ففي النهاية يخوض هذا الرئيس اليوم حرب شبه جزيرة القرم، تماماً كما خاضتها كاثرين مع السلطنة العثمانية وانتصرت.
«أعتقد أن بوتين مصمّم على منح الحرية للشعب الروسي، ولكن من دون تدمير أسس البلاد والتضحية بالكثيرين».
الحديث عن الديموقراطية والحريات في المجتمع الروسي أساسي في النقاش حول قدرة هذا البلد على فرض نفوذه الإقليمي، في مواجهة التحديات عند بوابته الغربية عبر زحف حلف شمال الأطلسي (NATO)، وصولاً إلى احتواء تداعيات العقوبات الغربية المفروضة عليه.
فأي صمود لإدارة الرئيس بوتين مرهون بتحلّق الغالبية الشعبية حول خياراته. بحسب كلمات شوفالوف: «على الجميع معرفة شخصية الرئيس بوتين؛ العقوبات لن تلوي ذراعه والشعب الروسي لن يدير ظهره للتحديات الخارجية الماثلة أمامه».
إنها لحظة حساسة للفدرالية الروسية من دون شك. اقتصادياً، يُرهقها تراجع سعر برميل النفط إلى ما دون 50 دولاراً في ظلّ توقعات باستمرار ضعفه حتى نهاية العام ــ ومع سيناريوات دراماتيكية متنوعة تصل إلى حد توقع هبوط السعر إلى حدود 20 دولاراً ــ أما مالياً، فقد أدت العقوبات الغربية إلى عزلها في إطار النظام المالي العالمي.
ما يزيد هشاشة المجتمع الروسي في هذه المرحلة هو أن نموذج النمو الذي اعتُمد، خلال فترة العقد الماضي، والذي قام على قوة الطلب الاستهلاكي، «تمّ استنفاده كلياً» بحسب تعبير وزير المال السابق، ألكسي كودرين. «حتى قبل عامين، حين كانت أسعار النفط مرتفعة، لم نكن نحقق معدلات النمو التي تصل إلى 7%».
أما المشكلة الأكبر للاقتصاد الروسي فهي تراجع الإنتاجية وضعف الإطار المؤسساتي الذي يضمن الابتكار.
يعترف كودرين بأنه مسؤول أيضاً عن ضعف الإجراءات الإصلاحية نظراً إلى تجربته السابقة في الحكومة. غير أنه يجزم حالياً بأن علّة الاقتصاد هي «الدور الكبير للدولة في السوق». يقول: «هذا النموذج من إدارة الاقتصاد عبر سيطرة الدولة، أثبت فشله».
يتحدث كودرين بلغة السياسي السابق الذي يتمتع بترف المعلق الأكاديمي. يركّز على ردّ فعل السوق المالية حالياً من علاقة الحكومة الروسية بالمصرف المركزي وما يُحكى عن محاولة تخطي استقلاليته.
ولكن الكلام الطاغي اليوم في المخيم الروسي هو الكلام الفاعل وليس المتلقي. من الأصوات البارزة على هذا الصعيد، رئيس مصرف VTB العملاق، أندريه كوستين. يقول: «صحيح أن العقوبات تمنع المستثمرين من شراء أسهمنا في ظل بيئة مالية عالمية أساساً صعبة... ولكن لن نواجه أي مشكلة في تسديد استحقاقاتنا من الديون الخارجية هذا العام».
يجزم بأنه بدعم المصرف المركزي والحكومة فإنّه «خلال عامي 2015 و2016 لن تواجه مؤسسة أو شركة كبيرة روسية مشكلة في تسديد مستحقاتها. لذا يُمكن أن يطمئن الدائنون الأجانب».
أما الشق الأهم من الحديث فهو إذا وسّع الغرب نطاق عقوباته لتصل إلى حجب خدمة «سويفت» (Swift) عن المؤسسات المالية الروسية، أي عزل النظام المالي الروسي عن العالم.
«نحن أساساً ابتكرنا نظامنا الخاص بالمراسلة المصرفية المحلية لاستبدال سويفت» يُطمئن المصرفي المخضرم. «ولكن إذا حدث وفُصلت روسيا عن سويفت، فإن ذلك سيكون تدهوراً هائلاً في العلاقة بين الشرق والغرب. أعتقد أنه إذا حدث ذلك، فعلى سفيري روسيا والولايات المتّحدة مغادرة واشنطن وموسكو في اليوم التالي!»
وللتذكير، فإن الولايات المتّحدة عمدت إلى عزل إيران والمؤسسات المالية الإيرانية العاملة في الخارج عن نظام «سويفت»، غير أن البلدين كانا حينها في مرحلة قطيعة. «لذا فإن هكذا وضع مع روسيا قد يؤدي إلى حرب».
ولكن رغم صعوبة هذا الوضع وحساسية المرحلة المقبلة على الروس، فإن الصمود ممكن. رافعته الأولى طبعاً هي الدعم الشعبي، مع حريات أو بدونها، أما العامل الثاني فهو دعم الحلفاء، وتحديداً الصين.
وفقاً للأكاديمي الصيني المتخصص في الشؤون الخارجية، هو جينباو، هناك علاقة صداقة قوية بين قيادتي البلدين، ولكنها ليست وحدها التي تُحدد أهمية التنسيق. «مثلاً، إنّ ابتكار آلية تواصل مصرفي عبر الحدود موجود منذ فترة وذلك لتجنب الرقابة الأميركية. «وقد كشفت الوثائق التي نشرها إدوارد سنودن أن الولايات المتّحدة كانت تراقب العمليات (المصرفية) عبر فيزا وسويفت» على نحو دقيق.
شرح جينباو، في الجلسة نفسها، أن إجراءات الطوارئ التي أطلقتها بلدان مجموعة «بريكس» أخيراً، وهي صندوق الاستقرار المالي بقيمة 50 مليار دولار وبنك التنمية بالقيمة نفسها، تُشكّل دعماً مهماً في وقت الأزمة، كذلك هي اتفاقات الغاز الهائلة الموقعة بين بكين وموسكو تفوق قميتها 400 مليار دولار.
والأهم هو أنّ موسكو حالياً تُشجّع الشركات الصينية على الاستثمار مباشرة في قطاع الطاقة الروسي وضخ رأس المال الأجنبي الحيوي في ظل شح الرساميل الوافدة.
استناداً إلى شوفالوف، فإن التفاتة روسيا إلى شرقها جاءت متأخرة. «عملياً، لم نتنبه سوى في عام 2010، إلى ذلك الهامش الهائل من مجالات التعاون مع الصين، الذي لم نكن نوليه الأهمية اللازمة». يوضح: «لا شك في أن هناك صعوبة في التفاوض معهم (أي الصينيين) ويتطلب الأمر وقتاً، ولكن هناك شركات صينية ضخمة تأتي إلى روسيا للاستثمار».
صحيح أنّ ما تخسره موسكو من الغرب لن تعوّضه كلياً من الشرق، ولكن لديها الكثير لتكسبه. «أصحاب المليارات الشباب ليسوا حكراً على موسكو، هناك صينيون شباب أيضاً يملكون المليارات يريدون الاستثمار في روسيا!»
فهل تؤمن تلك الاستثمارات المطلوبة صمود روسيا أمام أعدائها؟