في محاولةٍ للتخفيف من آثار الأزمة المالية الأعنف منذ 17 عشر عاماً، التي تتعرض لها روسيا اليوم، ستقوم السلطات الروسية ببيع 88 مليار دولار من احتياطها المالي بالعملة الصعبة، من أجل رفع قيمة العملة المحلية أي الروبل. وكان وزير المالية الروسي، أنطون سيليانوف، علّق على هذه الخطوة، في 14 كانون الثاني 2014، بأن «المالية الروسية والبنك المركزي الروسي سيقومان معاً ببيع جزء من احتياطاتهما المالية بالعملة الصعبة، وستعمد المالية إلى إرسال ودائع بالروبل إلى البنوك، بهدف الحفاظ على السيولة النقدية للعملة الروسية».
يظهر من خلال هذه الخطوة أنّ روسيا بدأت تنتهج سياسة اقتصادية لمواجهة الحالة الطارئة التي تتعرض لها البلاد، وبلغت ذروتها في كانون الأول من العام الماضي، بعد الانخفاض الصادم الذي تعرّض له الروبل الروسي مقابل الدولار الأميركي، وصل إلى 40 في المئة هذا الشهر.
هل يمكن أن يكون للعامل القومي القول الفصل في صمود روسيا؟

ولا بدّ من التذكير بأن العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا بعد انضمام القرم إليها في آذار الماضي، لا تمثل سبباً رئيسياً للأزمة المالية الحادة التي تعاني منها البلاد. بل إن ما فرض هذا الواقع المرير هو قرار تخفيض سعر النفط من قبل منظمة «أوبك»، الشهر الماضي، وذلك يعود إلى اعتماد الاقتصاد الروسي بشكل رئيسي على صادرات النفط والغاز الطبيعي، ما خفض الواردات المالية إلى روسيا بحوالى 20 في المئة، أو ما يعادل 45 مليار دولار أميركي، بحسب صحيفة «ذي إيكونوميست» الأميركية، وأدّى إلى وقوعها في هذه الأزمة.

الحرب الباردة الجديدة: هل تنتهي قبل أن تبدأ؟

بعدما نجحت روسيا في استعادة القرم وضمّها إلى أراضيها، بدأ الحديث عن عودة روسيا القوية إلى الواجهة على الساحة الدولية، وأنّ المشهد الدولي سرعان ما سيتحوّل إلى ما يشبه الحرب الباردة: معسكران متنازعان في سباق اقتصادي سياسي، تتنّقل كفة النفوذ بينهما. ولكن المشهد الدولي اليوم لم يعد بالإمكان وصفه كذلك، بل إن هذه الحرب الباردة المتوقعة ليست واضحة المعالم، وذلك لسبب رئيسي، وهو الأزمة الاقتصادية التي تتخبط بها موسكو.
فقد خلّفت الأزمة الأوكرانية نتائج سلبية على الاقتصاد الروسي، بدأت تنعكس على العلاقات الروسية الخارجية. فمهما خفّفت السياسة الاقتصادية الروسية الطارئة من وطأة الأزمة المالية داخلياً، إلا أنّ روسيا لا يمكنها أن تتجنب الآثار الخارجية والسياسية لهذا التراجع الاقتصادي، والذي بدأ يظهر بشكل أوضح عبر تهديده «الحلم» الروسي بإنشاء الاتحاد الأوراسي الاقتصادي الذي عملت روسيا على تشكيله طوال السنوات الماضية، طامحةً إلى أن يكون قوة اقتصادية عالمية مثل الاتحاد الأوروبي.
تُعتبر الاتفاقية الاقتصادية، عام 2011، نواة الاتحاد الأوراسي، والتي تجمع بين بيلاروسيا، كازاخستان، وروسيا، وكان من المفترض أن ينضم إليها كلّ من أرمينيا وقرغيزستان وأوكرانيا. خطط الكرملن لتطوير هذه الاتفاقية، لتتحول في ما بعد إلى اتحاد اقتصادي تزول بين دوله الضرائب الجمركية ويشمل التعاون العسكري والتعاون السياسي، وهو من أبرز المشاريع الاقتصادية الاستراتيجية التي كانت القيادة الروسية تسعى إلى تحقيقها في عام 2015. ولكن التراجع الاقتصادي الروسي لم يعد عاملاً محفزاً للدول المشاركة في الاتفاقية لاستكمال إنشاء الاتحاد خوفاً من أن تنسحب آثار تراجع الاقتصاد الروسي على اقتصاداتها أيضاً.
تجدر الإشارة إلى أنّ هذا الاتحاد لو تشكّل فسيعتبر سابقةً تاريخية بعد نهاية الحرب الباردة، لكونه المنظومة الاقتصادية الأولى التي تجمع بين دول الاتحاد السوفياتي المفكك في إطار أوسع من رابطة الدول المستقلة القائمة حالياً. فهو يجمع أكثر من دولة ضمن مجموعة من القواعد الملزمة ويشكّل نواةً لتنظيم دولي، على غرار الاتحاد الأوروبي، له قوانين خاصة تتعلّق بتقليص الضرائب وعقد مشاريع اقتصادية بين بيلاروسيا وروسيا وكازاخستان، وسيساهم في إيجاد فرص عمل للعديد من الأشخاص في كلّ من هذه الدول. وشكّل الالتزام والتوافق السياسي بين قادة الدول الثلاث البارزة في هذا المشروع بادرةً لتوسيع بنود هذه الاتفاقية لتشمل أموراً متعلقة بالزراعة والتجارة والاتصالات.
ولكن التراجع الصادم في الاقتصاد الروسي أظهر أنّ الرابط الجغرافي – السياسي بين روسيا والدول التي كان من المفترض أن تكون جزءاً من الاتحاد الأوراسي ليس كافياً لتكتب له الحياة في ظلّ الغيمة الاقتصادية السوداء التي تحوم حول روسيا. ويعود ذلك إلى أنّ العقوبات الغربية بتهديدها الاقتصاد الروسي، وضعت بطريقةٍ غير مباشرة كلّ دول الرابطة المستقلة التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي سابقاً والتي تربطها بروسيا علاقات تجارية واقتصادية، تحت وطأة الخطر، ما جعل هذه الأخيرة تتردد في توسيع مشاريعها الاقتصادية مع روسيا الاتحادية، وأولاها كازاخستان.
ولم يتوانَ رؤساء هذه الدول عن التعبير عن تردّدهم في شأن الانضمام إلى هذا الاتحاد. فقد صرّح رئيس بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو، في كانون الأول عام 2014، أنّ «المهمة تحددت وهي التعامل بالدولار لا بالروبل، وكان علينا أن نعمل منذ مدة طويلة لمطالبة الروس بأن يدفعوا لنا بالعملة الصعبة»، وهذا الكلام يشير إلى تزعزع ثقة بيلاروسيا بروسيا.
الطموح الروسي كان أن تنضم أوكرانيا كذلك إلى الاتحاد، وهو أمر لم يعد ممكناً نظراً إلى الظروف الحالية، أما بالنسبة إلى كازاخستان، ثاني أكبر دولة في هذا الاتحاد بعد روسيا، فقد اعتمدت سياسة اقتصادية مغايرة للسياسة الروسية، مباشرةً بعد انضمام القرم إلى روسيا، ولا يمكن بالتالي تحقيق هذا الرابط بين الدولتين، وإنشاء اتحاد اقتصادي تعتمد أكبر دولتين فيه، وهما روسيا وكازاخستان، سياستين اقتصاديتين مختلفتين.
إضافة إلى ذلك، قد تواجه روسيا في ظلّ تراجعها الاقتصادي الذي أضعف نفوذها ضمن محيطها الحيوي، خللاً في علاقتها مع الصين، فقد تتحوّل من كونها علاقة ندية تجمع بين دولتين كبيرتين، إلى علاقة تكون فيها الصين هي الطرف المسيطر. فلقد جرت طروحات بين مسؤولين صينيين حول إمكانية «إنقاذ» الحليف الروسي من ورطته الاقتصادية، إذا ما اتضحت الحاجة إلى ذلك فعلاً، وهو أمر يهدد التوازن الدولي، ويذكّر بنهاية الحرب الباردة في ثمانينيات القرن الماضي. ففي حال لم تتمكن موسكو من استعادة عافيتها سريعاً، أصبح من الصعب وصف المشهد الدولي بأنّه متوازن بين حلفين كبيرين، روسيا والصين من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها من جهة ثانية.
قد تعوّل القيادة الروسية على القدرة التاريخية للشعب الروسي في التعامل مع الأزمات، فكأن الروس قد اعتادوا الأوضاع الاقتصادية السيئة، والتعامل مع الأحداث الطارئة، في ظلّ ثقتهم بقادتهم وسياسة بلادهم، ويعود ذلك إلى النزعة القومية القوية الموجودة لدى الروس تجاه أمتهم. فهل يمكن أن يكون للعامل القومي القول الفصل في صمود روسيا، رغم العوامل الاقتصادية والاجتماعية السيئة التي تهدّد البلاد؟