ربّما تكون فرنسا قد شهدت أكبر هجماتها الإرهابية، وهي لم تقصّر في استثمارها في «مسيرة الجمهورية» التي تجلّت بحلقة تضامن دولية مشهودة لا يزال الإعلام الفرنسي والعالمي يتحدث عنها. ولكن ما يُقلّص أي غبطة قد تتمخّض عن هذا «التضامن» هو التمثيل الأميركي الذي أتى على مستوى سفراء فقط، فيما تدافع باقي رؤساء الدول أو نوّابهم للحضور شخصياً في الصفوف الأمامية للمسيرة. بيان البيت الأبيض أسف في ما بعد لعدم إرسال مسؤول رفيع المستوى للمشاركة في المسيرة، وهو بذلك قام بوظيفته في اتجاه الخارج، لكنّه لم يضع حداً للانتقادات الداخلية التي تفاعلت على أساس ما هو سائد في السياسة الأميركية، أي أن واشنطن يجب أن تكون على رأس كل تحرّك.
كما لم يمنع البعض الآخر من انتقاد ردّ الفعل الفرنسي نفسه على الهجمات، التي إن بشّرت، على طريقتها، بحقبة جديدة من مكافحة الإرهاب، لكنها «أتت على مستوى عالٍ من التهويل والمبالغة المتفاوتة مع أهمية الحدث نفسه».
انطلاقاً من هذه الواقعة، بدا لعدد من المحلّلين المخضرمين، من أمثال ديفيد إغناطيوس وتوماس فريدمان، المقرّبين من دوائر صنّاع القرار والسلطة، أن التدخل على خط الأزمة الفرنسية الجديدة واجب، لإعطاء بعض النصح ولتخفيف حدّة التوتر الذي أعقب الهجمات، عدا عن الوقوف في وجه الانسياق الفرنسي وراء التهويل. وبناء على خبرة سابقة خاضتها دولتهما في محاربة الإرهاب، كان أقل ما يمكن فعله استسهال فكرة البوح بما لم يتم البوح به في بداية المعركة الأميركية وأوجها في وجه الإرهاب، فأفصحا في إلقاء محاضرة أميركية، على الحليف الفرنسي، لا بدّ أن تساعد في تقدير مستوى الإرهاب وكيفية محاربته مستقبلاً.
من الاقتناعات التي تكوّنت عند الكاتب في صحيفة «ذي واشنطن بوست»، ديفيد إغناطيوس، على مدى 13 عاماً من محاربة أميركية للإرهاب، هي أن نشر فرنسا 10 آلاف جندي على أراضيها غداة الهجوم على مجلة «شارلي إيبدو»، «الجواب الخاطئ على المأساة، الذي قد يكرّر الأخطاء التي اقترفتها الولايات المتحدة في ردّها على هجمات 11 أيلول 2001».
بالنسبة إليه، كان من الأفضل على المحلّلين المختصّين في شؤون الإرهاب التروّي في ربط الصلة بين «القاعدة في اليمن» و«تنظيم الدولة الإسلامية»، وتحليل علاقات سعيد وشريف كواشي مع أحمدي كوليبالي، على مستوى عصابات الشوارع وفي السجن، بدل اعتبارها «مؤامرة مباشرة». حتى أن إغناطيوس دعّم فكرته هذه برأي أحد المسؤولين السابقين في وزارة الخارجية الأميركية، الذي قال له إن «دور الدين في كل ذلك مبالغ فيه بشكل خطير».
حجم الهجوم في باريس كان متواضعاً بالنسبة إلى معايير الإرهاب العالمي

ومن اللافت أن الأخير اعتمد إطاراً اجتماعياً في هذه القضية قد يسهِّل التواصل مع الشباب المتطرّف، من خلال «مخاطبتهم على أنهم شباب، أكثر من أنهم مسلمون»، «فالدخول في الجدل الديني لن يكون مربحاً، لغياب نقطة مهمة وهي أن التطرف يمنح الشباب معنى للانتماء ومنفذاً للمغامرة، وأيضاً نوعاً من وضع أفضل».
استكمل إغناطيوس نهجه المتعقّل في تلقين الفرنسيين دروس أميركا، فأشار إلى أنه، خلال الأسبوع الماضي (أي بعد هجمات باريس)، وجّه سؤالاً إلى مختصّين في شؤون محاربة الإرهاب في البيت الأبيض وفي الحكومة الأميركية، عمّا تعلّمته الولايات المتحدة على مدى عقد من المعارك المنهِكة مع «القاعدة». وخلص إلى أنّ «الولايات المتحدة ليست صوتاً موثوقاً به لإخبار المسلمين ما هو الإسلام الحقيقي»، أي أنه توصّل إلى إحدى البديهيّات التي يدركها معظم العالم الإسلامي والعربي على مستواه الشعبي قبل الرسمي.
وفي مجمل نصّه، استخدم الكاتب الأميركي عبارة «المتطرّفين العنيفين»، التي قد تعبّر عن محاولة للتماهي مع خطاب البيت الأبيض الأخير الرافض لاستخدام مصطلح «الإسلام الراديكالي» أو المتطرّف في وصف العمليات المسلّحة التي نُفذت في فرنسا. وقال إن الرد على هؤلاء «المتطرّفين العنيفين»، «يأتي من المراكز الدينية في مصر والسعودية وغيرها من الدول الإسلامية»، في حين يمكن أن «تقود التكنولوجيا الأميركية هذه الرسالة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من دون أن تكون الولايات المتحدة هي المبادر».
انسحب التروّي في معالجة الشق الديني على الكاتب في صحيفة «نيويورك تايمز»، توماس فريدمان، الذي تلاقى مع إغناطيوس بالقول: «نحن نكذب على أنفسنا عندما نقول للمسلمين ما هو الإسلام الحقيقي». واتجه فريدمان إلى مفهوم أبعد وأكثر تشعّباً ينطلق من واقع تناقض وازدواجية التعاطي مع «الظاهرة الجهادية بأكملها... في العالم العربي، أوروبا وأميركا».
ففي واشنطن مثلاً، يسري مفهوم التناقض على العلاقة مع الرياض التي، وفق شرح فريدمان، «ضاعفت التزامها بالوهابية أو الإسلامية السلفية (أكثر فروع الإسلام تشدداً) منذ حادثة الحرم المكي في عام 1979 حين حاول الجهاديون الاستيلاء على الحرم، مدعين أن حكام السعودية لا يمثلون الإيمان» الإسلامي.
وبعد تحليل سبب الاستدارة السعودية نحو الوهابية، أشار فريدمان إلى أنها «اندمجت مع إيرادات النفط ليتمّ استخدامها بالتالي من أجل بناء الجوامع المنبثقة عن الوهابية، والمواقع الإلكترونية والمدارس الدينية في العالم الإسلامي». وفي المقابل، لم تواجه الولايات المتحدة (حليفتها) السعودية أبداً في هذا الموضوع، «بسبب إدماننا على النفط»، عقّب فريدمان.
إشكالية أو تناقض أوروبا في تعاملها مع الإسلام عالجها توماس فريدمان، مستنداً إلى نظرية الباحث في معهد «ستراتفور»، جورج فريدمان، فتساءل هل كان هذا الأخير محقاً عندما قال إن «الأوروبيين تبنّوا التعددية الثقافية تحديداً لأنهم لم يريدوا استيعاب المهاجرين المسلمين»، الذين هاجر معظمهم إلى القارة العجوز لـ«إيجاد عمل وليس من أجل هوية جديدة».
ومن التشعّبات الأخرى للقضية الفرنسية الحديثة التي بنى عليها عدد من المحلّلين الأميركيين في سبيل الحديث عن تهويل ومبالغة رداً على الحدث، هي صورة القادة وهم متشابكو الأيدي مع الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، ومع بعضهم البعض خلال مسيرة باريس، والتي أثارت، مثلاً، حفيظة الباحث غير المقيم في مركز جامعة «جورج تاون» للدراسات الأمنية ومعهد «بروكينغز»، بول بيلار، فنطق بما يجول بخاطر عديدين. ووصفها في تقرير في مجلة «ذا ناشيونال إنترست» بالـ«عرض المصطنع للوحدة».
وتالياً، انطلاقاً من نظرية تُبنى عليها معايير العمل الإرهابي، اعتبر بيلار أن «حجم ما قام به المهاجمون في باريس كان متواضعاً بالنسبة إلى معايير الإرهاب العالمي، فضلاً عن كل معايير العنف أو العنف السياسي بشكل عام». وأشار إلى المجزرة التي قامت بها «بوكو حرام» في نيجيريا، تزامناً مع حادثة فرنسا والتي أدت إلى مقتل المئات أو ربما الآلاف. يومها لم تحظ هذه الجريمة سوى باهتمام دولي ضئيل، مقارنة بالاهتمام بحادثة باريس. فـ«أي حادثة تشهدها دولة غربية كبرى ستساعد في استقطاب الاهتمام أكثر من أي حدث دموي آخر يشهده أي جزء من بلد ناءٍ في القارة الأفريقية».