ليس مبالغة القول إن الحوادث الأمنية المتوالية في فرنسا خلال الأيام الأخيرة، أسست لمشاعر متداخلة راودت رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، وطاقمه السياسي. وبعيدا عن عبارات العلاقات العامة التي أوردها نتنياهو في مناسبات عديدة، فإن المؤكد أن الواقع الجديد ـ غير المفاجئ جراء تكاتف تنيظمي «داعش والقاعدة» على استهداف العمق الفرنسي، رأت فيه تل أبيب فرصة لتوظيفها في أكثر من اتجاه. لذلك، لن يشعر نتنياهو بالملل من تكرار معزوفته عن «وحدة الإرهاب مهما اختلفت أسماؤه».... حزب الله والمقاومة الفلسطينية، وأيضا «وحدة المصير بين الغرب وإسرائيل في مواجهة العدو المشترك».هذا الحديث لن يكون «علاقات عامة»، بل واضح أنه استراتيجية تعتمدها إسرائيل التي يشهد تاريخها أنها دولة تتقن اللعب على المتغيرات السياسية والأمنية لحساب أولوياتها المحددة مسبقا وفق مصالحها. ضمن الخطة الدعائية، يتصرف نتنياهو كأن ما جرى في فرنسا دليل قاطع على صحة الرؤية الإسرائيلية إلى «الإرهاب». على أنه حضر توقع «ارتداد الإرهاب» إلى الدول التي دعمته وراهنت عليه في مواقف كثيرين، ولم يكن إلا انتظار التوقيت والمكان والأسلوب.

الخطير أنه على قاعدة «يحق لإسرائيل ما لا يحق لغيرها»، لم تجد قيادة تل أبيب حرجا من «الرقص على دماء الفرنسيين»، إذ كررت الدعوة، هذه المرة علنا، إلى اليهود الفرنسيين من أجل هجرة جماعية إلى إسرائيل، على خلفية أنها المكان الوحيد القادر على توفير الأمن لهم.
في السياق، لم يكتف نتنياهو بالتعبير عن المشاعر التي كررها في أكثر من مناسبة، بل قرر أن يذهب للمشاركة بنفسه في تشييع القتلى الذين سقطوا في فرنسا، على رأس وفد إسرائيلي، إلى جانب حضور وزير الخارجية، افيغدور ليبرمان، ووزير الاقتصاد نفتالي بنيت.
وقبل انطلاقه إلى باريس، أجمل نتنياهو التوظيف الإسرائيلي، بالقول: «سأشارك مع القادة الدوليين في مسيرة تقام من أجل حملة مجددة على الإرهاب الإسلامي الذي يهدد كل الإنسانية، فهذا ما دعوت إليه منذ سنوات عديدة». وبطبيعة الحال، فإنه يقصد العمل على توجيه هذه الحملة المفترضة بناء على المفهوم الإسرائيلي للإرهاب شاملا حزب الله والفصائل الفلسطينية. وعلى المستوى اليهودي، أضاف رئيس وزراء الاحتلال، أنه سيشارك في مهرجان تقيمه الجالية اليهودية بحضور الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند... «سأقول فيه إن كل يهودي يريد الهجرة إلى إسرائيل، سيستقبل هنا بأذرع مفتوحة». وهو أيضا قال عبر التلفزيون الفرنسي: «إلى كل يهود فرنسا وأوروبا أقول: إسرائيل ليست المكان الذي تتوجهون إليه للصلاة فقط، بل دولة إسرائيل هي وطنكم».
هذا الموقف لقي ردا فرنسيا رسميا، على نحو منخفض، يدعو اليهود إلى البقاء في وطنهم. مع ذلك، على مستوى المضمون، قد لا تنطوي هذه الدعوة الإسرائيلية الرسمية على أي جديد. فهي امتداد لسياسات قديمة منذ ما قبل احتلال فلسطين، وفكرتها استغلال حالات التدهور الأمني والسياسي والاقتصادي في دول يسكنها يهود، بل يمكن القول إن أهم «الهجرات» اليهودية إلى فلسطين، لم تأت على خلفيات الانتماء العقائدي الصهيوني وحتى الديني، لأنها أتت في سياق أزمات واجهتها الدول التي كانت فيها، بدءا من روسيا القيصر، وأوروبا الشرقية، وصولا إلى «هجرات ما بعد الحرب العالمية الثانية»، وامتد هذا المسار وصولا إلى توافد نحو مليون يهودي من الاتحاد السوفياتي على خلفيات الأزمات التي أدت إلى انهياره.
عموما، فبرغم أن «الهجرة اليهودية»، كانت، ولا تزال، هدفا لإسرائيل وفق مفهوم «وطن قومي لجميع اليهود في العالم»، فإنها من جهة أخرى، عنصر أساسي من ثوابت الإستراتيجية العبرية، كونها توفر للدولة إمداداً بشرياً هي أحوج ما تكون إليه، ولا يقل أهمية عن تزويدها بالتكنولوجيا العسكرية كي تحافظ على تفوقها النوعي مقابل المحيط العربي، لأنها توفر مدداً بشرياً يضمن الأغلبية اليهودية في إسرائيل ضد «الخطر الديمغرافي» للثقل الفلسطيني، في فلسطين التاريخية.
كذلك، تأتي دعوة نتنياهو إلى «هجرة» يهود فرنسا، في ظل استحقاق تواجهه تل أبيب لجهة اقتراب نضوب الخزانات البشرية اليهودية التي يراهن على هجرتها، بعد مضي أكثر من قرن على «الهجرات اليهودية المتوالية»، وهو ما يفرض، أكثر من أي وقت، العمل إسرائيليا على توفير بيئة تشجع خروج اليهود من البلاد ذات الرفاهية والاستقرار الأمني والسياسي، وبخاصة أوروبا. هكذا أتت الأحداث الأخيرة كأنها «فرصة من السماء» لتشجيع اليهود الفرنسيين على الخروج، وما يعزز أهمية الموقف الإسرائيلي أن فرنسا تضم أكبر جالية يهودية في أوروبا، وثالث تجمع يهودي في العالم، إذ يقدر عدد اليهود فيها ما بين 500 إلى 600 ألف شخص.
في المقابل، فإن الدعوة الرسمية الإسرائيلية من رأس الهرم السياسي، تنطوي على مس عميق بالسيادة الفرنسية ولو صدر هذا الحديث عن رئيس كيان سياسي آخر، غير إسرائيل، لشهدنا ردود فعل أشد وأقسى، وخاصة أن الدعوة تنطوي على أبعاد غير ما ذكرنا عن تشجيع هجرة اليهود. فنتنياهو يقدم فرنسا على أنها باتت دولة «فاشلة»، والنظام السياسي والأمني فيها غير قادر على تأمين الحماية للمواطنين، ومنهم اليهود.
أيضا، بدا نتنياهو كأنه يقول لليهود إن ما جرى لم يكن حدثاً عابراً وانتهى. بل «الأسوأ أمامكم»، وفي ذلك خطورة تستهدف ثقة الشعب الفرنسي بدولته ومستقبله، لكن، كالمعتاد، عندما يكون أحد طرفي القضية إسرائيل، تصبح المقاربة الغربية مختلفة، لذلك كان الرد الفرنسي لا يتلاءم مع مستوى خطورة هذا الموقف، إذ أكد رئيس الوزراء الفرنسي، مانويل فالس، في رده على نتنياهو، أن «مكان يهود فرنسا، هو فرنسا».
في الإطار، سيكون لهذه الحادثة مفاعيلها المؤثرة في مستوى تشجيع «الهجرة» اليهودية إلى إسرائيل، وأصلا قدوم اليهود من فرنسا قبل هذه العمليات، كان بمستوى متقدم، قياسا إلى بقية الدول، إذ تفيذ معطيات وزارة الاستيعاب الإسرائيلية، بأن عدد المهاجرين اليهود الفرنسيين في 2014 تجاوز لأول مرة عدد اليهود المهاجرين من أوكرانيا وروسيا، بعدما بلغ 6960 شخصا، وهو ضعف عدد يهود فرنسا الذين قدموا في 2013، وبلغ آنذاك 3231.
حساسية الدعوة الرسمية ليهود فرنسا أثارت مخاوف رئيس الوكالة اليهودية، نتان شيرانسكي، من أن تؤدي إلى أزمة في العلاقات بين باريس وتل أبيب. لذا دعا المسؤولين الإسرائيليين إلى الحذر من أن «يبدو كمن يرقص على الدماء»، لكن جوهر موقف شيرانسكي بدا كأنه يعترض على أسلوب التعبير لا جوهر الدعوة، فلفت إلى أنه كان لا ينبغي قول: «عليكم الهجرة فورا»، بل: «سنفعل كل شيء لتشعروا بالراحة، وإسرائيل مكان مدهش لليهود للسكن فيه»! كما ذكَّر بدعوة مشابهة أطلقها أرئيل شارون عام 2003، ما أدى إلى أزمة مع الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، فاضطر شارون إلى التراجع.