قبل أفول عام 2014 بايام قليلة، وردت اخبار لم تثر الاهتمام المناسب لدى الرأي العام: وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قرارا يقضي باحداث تغيير في عقيدة الجيش الروسي. وبموجبه صارت قوى حلف شمال الأطلسي، العدو الأول الذي يهدد الأمن القومي الروسي. تعلن روسيا اكتشافها تدريبات طيارين وطائرات «للعدو» على إلقاء قنابل نووية. يدعو رئيس بولندا، - العدو التاريخي لروسيا في تقسيمها واعادة تجميعها - الى كسر عقدة الخوف من المواجهة العسكرية مع موسكو.
في مكان غير بعيد، تعود اليابان لادراج تسليح للجيش بندا ضمن الموازنة السنوية، بعدما طال منعها منذ الحرب العالمية الثانية. وهذا التسلح، وخاصة الشق البحري منه، يجعل اليابان قاعدة بحرية متحركة في مواجهة الغريمين الشرقيين، الصين وروسيا، حيث بات في اسطولها حاملات طائرات هيلكوبتر وعدد كبير من الغواصات.
وفي هذه الاثناء، تستمر المعارك المفتوحة في كل العالم. عنف في اوكرانيا واليمن والعراق والبحرين، والاخطر في سوريا. نزاعات تعيد احياء احلاف الحرب العالمية الثانية. تعديلات توسع حلف الغرب بضم اليابان وإيطاليا وتركيا وعصبها المانيا. هناك الملف النووي الإيراني، وهناك ملف الأمن النفطي وممراته واهمها مضيق هرمز وباب المندب، اضافة الى ملف المنظومة الصاروخية المزروعة من شرق اوروبا الى وسطها، الموجهة الى روسيا.
كل هذه الملفات وغيرها، هي تفصيل ضمن ملفات معقدة، عصبها الصراع التاريخي العربي ـ الاسرائيلي (مع عدم التقليل من خروج بعض العرب من هذا الصراع)، وفيها الصراع الباكستاني - الهندي وارتباطه بالاصطفاف العالمي حيث باتت الباكستان الدولة والجيش الاحتياطيان تتقاذفهما علاقات تاريخية مع روسيا وانحياز صوب الخليج والمعسكر الغربي. كذلك الهند، التي لم تنسَ يوماً الانفصال والتي لها مصالح أقرب الى المعسكر الصيني ـ الروسي ولكن مع عدم التخلّي عن عواطفها «الديمقراطية الليبرالية»، وخاصة ان رئيس الوزراء الحالي يتماهى اكثر من اسلافه مع النظام الغربي.
اما في القارة الافريقية، حيث المخزون الكبير للمواد الاولية والمعادن والنفط، فنشهد حربا بين هيمنة تاريخية لقوى الاستعمار السابق مقابل الزحف الصامت للتنين الصيني، الذي يتبرع بالبنى التحتية لدول عدة مقابل اعطائه امتيازات استثمارية.
العالم في حالة توتر من شرقه الى غربه ومن شماله الى جنوبه، لم يصل بعد الى حالة عام 1961 ـ 1962 مع أزمة الصواريخ في كوبا، ولكنه يتجه بوتيرة سريعة الى سيناريو مماثل قد ينتج من احدى زوايا الصراعات المتعددة.
سوريا ساحة صراع مفتوحة، واللافت تبدّل جوهري في الموقف الروسي. من عدم ممانعة لتسوية تبقي النظام وتطيح الرئيس بشار الأسد. الى قناعة موسكو اليوم برفض اي تغيير يؤدي إلى كرة ثلج من السلبيات تصل حدودها إلى موسكو.
الامر نفسه في العراق. جرت تنحية المالكي ضمن تسوية ترضي الأميركي والإيراني والسعودي. لكن الغرب لا يريد هزم «داعش» بجهد فردي للجيش العراقي أو بجهد مشترك مع الجيش السوري، بل اعطاء هذا الرصيد إلى العشائر السنية كي لا تبسط إيران وجودها بأكثر مما هو مسموح به بالمفهوم الغربي. وفي جنوب الحزيرة، وصل الحوثيون الى باب المندب وأصوات المطالبة بالانفصال الجنوبي مرتفعة. واخيرا، جاء اعتقال الشيخ علي سلمان في البحرين دليلا على قرب احتدام الصراع هناك أيضاً..
بالمفهوم السياسي، أصبحت دول عدة في الشرق الأوسط «فاشلة» «Failed States» بدءاً بالسلطة الفلسطينية ولبنان وسوريا والعراق واليمن والسودان وليبيا، بينما تعيش دول أخرى حالة وجودية تصارع من أجل البقاء ومستعدة لاستعمال أي سلاح في المواجهة.
اما إيران، فهي قلق وهاجس الغرب وبعض العرب، الأول في الشرق المتخبط. العقوبات جعلتها تتوجه للاقتصاد الداخلي والاكتفاء الذاتي. من جهة، تعاني ازمة الحصار ومن جهة أخرى، تقف الشركات الغربية منتظرة فكه.
لقد فصل الملف النووي في المفاوضات عن السلوك السياسي لإيران في المنطقة، وباتت العقوبات المفروضة على طهران مرتبطة فقط بالتوصل إلى اتفاق حول تخصيب اليورانيوم وضمانات عدم انتاج سلاح نووي. جرى التمديد للمفاوضات لإعطاء الطرفين فرصة لتسويق الاتفاق داخلياً، وعلى الأرجح قد يكون هذا التمديد الأخير.
تطور المفاوضات في الملف النووي الإيراني، وثبات الموقف الروسي في سوريا، والصراع المفتوح الروسي الغربي، جعلت جميعها الأطراف المتضررة تشهر أسلحة مختلفة. بدأت حرب أسعار النفط وحروب ضرب العملات المحلية وخروج الرساميل والاستثمارات، واقفال أسواق المال لتدوير الديون المستحقة. يعتقد البعض أن روسيا كما إيران اليوم في صراع تاريخي ووجودي، كذلك العديد من دول المنطقة - ما يزيد من خطورة الموقف. سلاح الجو الروسي في أوج نشاطه منذ الحرب الباردة، حيث يرصد الناتو تحليقاً مستمراً للمقاتلات والقاذفات الروسية قرب دول البلطيق والدول الاسكندنافية، فيما ذكر بعض المراقبين وصول طائرات موسكو إلى حوالى 60 كيلومتراً من السواحل الغربية للولايات المتحدة.
كوريا الشمالية استطاعت الدخول في حرب الانترنت، وهي «الدولة المارقة المتخلفة» في نظر الغرب. هذه الدولة كما باكستان دولة احتياط عند الحاجة، وصراع الكوريتين لم ولن ينتهي إلا بتسوية دولية كبرى بين المحورين. كوريا الشمالية ليست مجرد «ولد شقي» يزعج الغرب، بل هي الهاجس المزعج لليابان، التي هي بدورها في نزاع مستمر مع الصين حول الجزر في البحر الصيني. هذه البؤر المتأججة جعلت حركة الأسطول الأميركي في حالة استنفار دائم، يقترب أحياناً من الشواطئ الصينية لإعطاء رسائل بأن النظام الصاروخي جاهز للرد إذا تعرضت كوريا الجنوبية أو تايوان أو اليابان لأي اعتداء من قوى خارجية.
من سوريا إلى أوكرانيا فآسيا ساحات مفتوحة لحروب قد تكون تقليدية بالمفهوم العسكري ولكنها غير مضمونة السيطرة عندما تصل إلى حدود دول تمتلك الأزرار النووية. روسيا، الدولة الوارثة لمخلفات الاتحاد السوفياتي مع حليفتها إيران ومع قوة كبرى كالصين، في مواجهة مع حلف عريض يبدأ بالولايات المتحدة وكندا إلى أوروبا بشقيها والى الخليج العربي وصولاً إلى استراليا. أخرجت كل الأسلحة العسكرية في مناورات مختلفة، ولكن ماذا عن الأسلحة السياسية والاقتصادية والمالية؟

سلاح النفط:

انهار سعر برميل النفط من مستقرّ يفوق الــ 100 دولار للبرميل، إلى 55 دولارا بتسعيرة غرب تكساس. أعلن وزيرا النفط السعودي والاماراتي، في المواجهة الإعلامية المباشرة، انهما لن يتخليا عن حصصهما في الإنتاح وأن ما يحدد سعر النفط هو السوق. لم يعلن البلدان مطلقاً ان النفط سلاح في مواجهة إيران وروسيا، بل للتنافس مع دول منتجة خارج أوبك لا تلتزم سقف إنتاج معينا، ولمنع الجدوى الاقتصادية لإنتاج النفط الصخري الذي يستلزم انتاجه عملية صناعية مكلفة (fracking أو تكسير الصخور الجوفية).
في المقابل، ترى إيران وروسيا أن انهيار سعر النفط محاولة اذلال مالية من المحور الذي يريد ان يعاقبهما على مواقفهما في ملفات عدة، بدءاً بسوريا وصولاً إلى الملف النووي الايراني.
أصبحت حرب أسعار النفط ذات حدين. فدول الخليج منتجة للسلعة وتتأثر مداخيلها سلباً، ولكنها تملك احتياطيات نقدية كبيرة (السعودية 900 مليار دولار، والامارات فوق 1 تريليون) وبالتالي فالمراهنة هي ضمن معركة من يصرخ أولاً، والرهان هو أن ايران وروسيا ومعهما العراق سيصرخون ألماً ويرضخون. لا أحد يكترث للدول المنتجة الأخرى كنيجيريا وفنزويلا والجزائر... وما يعزز افتراضية الصمود من خلال الاحتياطيات لدول الخليج ان سعر النفط يرتفع بسرعة بعد كل فترة انهيار مرحلية.

سلاح أسواق المال والديون:

يجري تداول السندات الدولية لفنزويلا وكأنها ستعلن إفلاسها وتخلّفها عن سداد أو خدمة الدين باحتمال 95%. بينما ارتفع العائد على السندات للشركات الروسية الكبرى من 4% إلى 15 ـــ 20%، ما يعكس فقدان الثقة. الأهم هو أن أي دين مستحق قريباً لا يمكن تدويره لأجل مستقبلي بسبب العقوبات المفروضة.

سلاح العملات المحلية:

احتمالات المواجهة تجعل المستثمرين الأجانب وكذلك رجال الأعمال المحليين يسيلون استثماراتهم ويبيعون العملات المحلية لمصلحة العملات الأربع الرئيسية في العالم وهي: الدولار واليورو والجنيه الاسترليني والين الياباني؛ اضافة إلى العملات الملحقة بها كالدولار الكندي والاسترالي والفرنك السويسري. اضطرت روسيا إلى انفاق أكثر من 120 مليار دولار للدفاع عن الروبل ورفع الفائدة على سنداتها المالية إلى 17%. كما أن الريال البرازيلي انخفض من 1.9 إلى 2.7 مقابل الدولار، وانخفض الروبل من 30 إلى 79 روبلاً للدولار الواحد، والراند الافريقي من 7.1 إلى 11.7 كأمثلة. طبعاً، الدول المذكورة المتضررة لا تملك القدرة على طبع النقد (QE أو «التيسير الكمّي») كما هي الحال مع دول الضفة الأخرى، حيث طبعت الولايات المتحدة ما يفوق الـ 9 آلاف مليار دولار، واليورو يخطط لطبع ما يفوق الألفي مليار. خيار الطبع سلاح قوي لكسر العناد لدى الطرف الآخر الذي لا تتوافر لديه هذه الرفاهية.
هذه الأسلحة في «المعسكر الغربي» لكسر شوكة «المعسكر الشرقي» يرافقها العديد من نقاط الضعف. فدول الاتحاد الأوروبي منقسمة فيما بينها على العديد من الملفات منها العقوبات على روسيا (المانيا) والأذى الذي لحق ببعض دول الاتحاد نتيجتها، وسوريا والموقف من الرئيس الأسد شخصياً، والمفاوضات في الملف النووي الايراني (ايجابية بريطانيا مقابل تشدد فرنسا). كذلك النظرة الأميركية للاتحاد الأوروبي والحلفاء الآخرين. فالولايات المتحدة تعلم أنها الوحيدة القادرة على التحرك العسكري الجدّي، وما رفع الصوت عالياً من دول مثل فرنسا أو بعض الدول العربية إلا صدى لحالات ضعف معينة. فعند الاستحقاق ستكون هي المعنية بالمواجهة.

ماذا عن المقلب الآخر؟

نقاط ضعفه أيضاً متعددة وكذلك نقاط تماسكه. فعلى الرغم من عدم وجود مرجعية قوية لتاريخ العلاقات الروسية ـــ الإيرانية، ولا ثقة معروفة بين الروسي والصيني، إلا انه في علاقات الدول ضمن مفهوم الرأسمالية الليبرالية التي تحكم العالم اليوم، باتت المصالح المشتركة هي التي تقرر التحالفات والخصومات. يكفي أن يقرأ المرء عن الأنابيب التي تبنى حالياً بين روسيا والصين لمعرفة العلاقة الاستراتيجية التكاملية بين الطرفين.
الصين وحدها قادرة على
برهنة خطأ نظرية فوكوياما حول نهاية التاريخ


العالم في حالة توتر،
من شرقه الى غربه ومن شماله الى جنوبه


سلاح الجو الروسي في أوج نشاطه منذ أيام الحرب الباردة
تركيا كانت أكثر من سعيدة بإمكانية مد أنبوب الغاز الروسي عبر أراضيها، إما لابتزاز حلفائها في الـ»ناتو» أو لغرور ضرب رأس رئيسها «اتاتورك الإسلامي». إيران بالنسبة إلى روسيا أصبحت بأهمية اليد اليمنى لليسرى، فبينهما تقع دول شرق آسيا التي يجنح بعضها صوب المعسكر الغربي؛ وإيران هي التي تجمع بين نفوذها على باب المندب إلى مضيق هرمز. لذلك باتت الدولتان في جبهة واحدة للدفاع عن وجود مشترك.
في الجانب المالي يبقى الحلم القائم بخلق عملة موازية جديدة تجمع بين دول البريكس وحلفائها، لكن 2014 كان المفترض به أن يكون عام الإعلان عن آلية إطلاقها وإنشاء البنك الرديف لصندوق النقد الدولي برأسمال مشترك صيني ـــ روسي ـــ برازيلي ــــ هندي ــــ جنوب افريقي، ولم يعلن عن جديد في هذا الأمر. فقط أجهزة الاستخبارات العالمية تعرف ما الذي يعرقل طموحا كهذا، وما التهديدات التي قد تكون سُرّبت لمنع تحقيقه. الولايات المتحدة لن تتوانى مهما كلّف الثمن عن منع أية عملة من أن تصير رديفة لعملتها في تداول النفط أو السلع الرئيسية. في جميع الأحوال من يراقب تجربة الاتحاد الأوروبي ومصرفه المركزي وحجم الخلافات بين الدولة الرئيسة فيه (المانيا) ودول الحلقات الأضعف من اليونان والبرتغال إلى اسبانيا وايطاليا يقدّر صعوبة إنشاء بنك مركزي للبريكس، يتولى إدارة العملة الجديدة لدول سيادية تختلف عن بعضها بعضا. وحتى يتحقق هذا الطموح، تبقى إمكانية طبع العملة إو إنشاء أسواق مال رديفة للنظام الغربي أصعب مما هي عليه في دول عرابي الرأسمالية الغربية.
قوة التحالف أو هشاشته في المعسكر الغربي واضحة، لكن صلابة التحالف في «المعسكر الشرقي» ستكون تحت الاختبار، وإن نجح فسيغيّر الخريطة الجيوسياسية للعالم التي رسمت بعد الحرب العالمية الثانية. الدولة المفصل لتكوين وصلابة التحالف في المعسكر الشرقي هي الصين. صحيح ان الصين شاركت روسيا في ثلاثة فيتوات متواصلة في مجلس الأمن حول سوريا، لكنها تبقى غامضة المواقف في سياستها حول مواضيع ساخنة متعددة في العالم، حتى إنها لم تقم برد فعل متوقع حيال تحليق الطائرات الأميركية أو عبور أسطولها البحري في المياه الصينية باستمرار، ولا عندما أعلن أوباما ان سياسة الولايات المتحدة ستتمحور حول المحيط الهادئ وآسيا.
هناك كذلك مدرسة فكرية في الصين (عكس روسيا) تقول بأن على الصين أن تبقى كما كانت خلال العشرين سنة الماضية، على الحياد أو على الأقل أن تلتزم الصمت في أمور نزاع دولية، وان يبقى تركيزها على تحقيق نمو اقتصادي بين 7 ـــ 10% وهي المستفيدة الأكبر من انهيار أسعار النفط؛ وان أي انخفاض جدي في نسب النمو قد يؤدي إلى اضطرابات داخلية، واثارة الحساسيات بين الاثنيات المختلفة أو الديانات التي ما زال يجمعها حتى اليوم نجاح الاقتصاد وعجلة الإنتاج. ولطمأنة من يخالفهم الرأي، يسوّق هذا الفريق ان الموقع الصيني في السياسة الدولية يمكن استلحاقه مستقبلاً، وفقط عندما يطغى الاستهلاك الداخلي على التصدير (أي تقوية الاقتصاد المحلي على حساب الاستهلاك الخارجي).
الصين وحدها قادرة على إثبات خطأ نظرية فوكوياما حول نهاية التاريخ وعدم إمكانية تطور الأنظمة الاجتماعية والسياسية بعدما أصبحت الديمقراطية الليبرالية هي النظام النهائي (بالمناسبة بدأ فوكوياما نفسه ينتقد نظريته جزئياً بالتراجع عن بعض الافتراضات ولكن هذا حديث آخر). كل الدلائل تشير إلى أن الصين لن تترك روسيا وإيران منفردتين في مواجهتهما مع الغرب تحسباً أن تكون التالية في الاستفراد، على مبدأ «أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض». كذلك الحال مع روسيا وحلفها مع إيران. فروسيا لا يمكنها التراجع الآن عن تحالف كهذا، بعدما أصبحت الحرب على حدودها ومحاربتها تاريخياً من الشيشان، ثم من جورجيا في أوستيا وابخازيا.
لا أحد يمكنه أن يتوقع ما ستكون عليه التطورات في الأشهر المقبلة، ولكن أصبح البعض يعتقد بأن العالم يعيش أخطر مرحلة منذ الحرب العالمية الثانية. فالكرة الأرضية باتت قرية كبيرة. اقتصادات الدول مرتبطة بعضها ببعض، واستمرار وتيرة التشنجات الدولية ينهي العولمة بالمفهوم الرأسمالي الذي أنشأها، ويثبت التكتلات الإقليمية المختلفة القائمة تحت شعار «مصالحي أولاً». قد تكون الولايات المتحدة مع كندا من الدول القليلة التي تستطيع إغلاق حدودها مع العالم وتحقيق الاكتفاء الذاتي، لكن حتى هذه الميزة لن تحصنهما من زلازل عاتية. لا يعيش العالم اليوم زمن الامبراطورية الرومانية ولا امبراطوريات أخرى للقياس عليها. الأربعون سنة الماضية توازي في التقدم التكنولوجي والعلمي تاريخ الإنسانية كله. لم تمر حقبة تاريخية معروفة للبشر حيث كان البشر قادرين على إنهاء البشرية، لكن ما يخيف المخضرمين في العلوم السياسية أن لا قوة صغرى أو عظمى تخلّت عن غطرستها وشاركت القوى المناهضة لها من دون دمار ودم.
لعلّ تصريح الرئيس الاميركي باراك أوباما الأخير حول الشرق الأوسط ودور إيران يكون بداية لتسوية إقليمية كمدخل لتسويات دولية حول الجبهات الساخنة؛ والتسويات الدولية مطلوبة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وحتى لخلق نظام نقدي جديد يعالج المديونية العالمية لدى الحكومات والمؤسسات، وإلا فسيذكر البعض مأثورة اينشتاين: «لا أعلم ما هو السلاح الذي سيستعمل في الحرب العالمية الثالثة، ولكني أعلم أن السلاح بعد هذه الحرب سيكون العصي والحجارة».




الجنوب اللبناني: توازن الردع!


أخطر محاور المواجهة العسكرية هو الجنوب اللبناني، أو ما يسميه الإسرائيليون الجبهة الشمالية. جرت محاكمات كثيرة لسيناريو المواجهة بعد 2006. الاسرائيليون يواصلون التهديد بإمكانية تدمير لبنان مرات عدة. من جهته، رسّخ حزب الله بلسان أمينه العام، ليس فقط معادلة الردع المتبادل، بل أيضاً الحرب. لن يبادر في حرب مقبلة، ولكنه يتوق إليها، لكون هذه الحرب قد تكون انتهاء ديمومة الكيان الإسرائيلي الذي أنشأه الغرب. الإسرائيلي يهيّئ نفسه على جميع المستويات، ولكن الرأي العسكري هناك منقسم بين فريق يرى ضرورة المبادرة لفرض الحرب، لكون التأخير يساعد حزب الله على بناء ترسانته الصاروخية، وتدريب المزيد من المقاتلين، هذا الفريق نفسه هو الذي يسعى إلى توجيه ضربة عسكرية إلى إيران، بحجة أن التأخير يعطي الوقت للقيادة الإيرانية للتطوّر العسكري. فريق إسرائيلي آخر ضد المغامرة العسكرية لأسباب عدة، أهمها أن العقيدة العسكرية، جاهزيتها لم تعد كما كانت في ذروة القدرة العسكرية لإسرائيل، وأن أي مغامرة تضع إسرائيل أمام امتحان انتهاء الحلم الصهيوني، والأفضل العمل على تسوية تاريخية في ذرورة النفوذ الصهيوني والوهن العربي.
من جهة أخرى، يراهن حزب الله ومن ورائه سوريا وإيران وانطلاقاً من ايديلوجيته العقائدية على مغامرة إسرائيلية لتحقيق الهدف الإلهي. يأخذون تهديداته لوصول صواريخه إلى ديمونا، في ظل الاكتظاظ السكني في المدن الإسرائيلية، وأولاها تل أبيب، ومحطات الكهرباء والبنى التحتية والمطارات والمعامل الكيميائية، على محمل الجد لا على فراغ. بعض الخبراء العسكريين يصفون حالة الردع بين إسرائيل وحزب الله بأنها أشبه بحالة الردع بين قوتين نوويتين.
احتمال المواجهة العسكرية على الحدود الإسرائيلية اللبنانية ستشغل «الهواتف الحمراء» من واشنطن ولندن وباريس إلى موسكو وبكين وطهران، لأن تدهور الأحداث من دون ضوابط دولية قد يؤدي إلى توسع رقعة الاشتباك من تل أبيب إلى طهران، ولأن حزب الله حينها لن يكون وحيداً في معركته، وكذلك إسرائيل، وخطوط الإمداد الجوي ستُفتح من جميع المصادر.