يدخل العالم العقد الثاني من الألفية الثالثة في ظل تحوّلات في ميزان القوى الدولية لمصلحة التنين الآسيوي، تضع الغرب التقليدي، الذي ساد الكوكب على مدى القرنين الماضيين، في موقف حرج، من دون أن يعني ذلك أنه بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة. اختلال يرجّح أن يؤجّج التوتر في الشرق الأوسط... وأفريقيا
حسن خليل
لم يكن بمقدور اليابان المهزومة في الحرب العالمية الثانية، التي أُسرت بتوقيع استسلام، تحقيق نفوذ سياسي وعسكري خلال السنين الـ65 الماضية، لذا ركّزت على الإنتاج الصناعي لتصبح في مصافّ الدول الخمسين الكبرى في العالم. لكن باقي الدول الآسيوية راقبت الغرب، وتعلّمت من تجاربه، وتجنّبت أخطاءه لتكوّن اليوم مع كل اختلافاتها العرقية والثقافية أكبر تحدٍّ للنفوذ الغربي التقليدي، الذي بدأ منذ حوالى 200 سنة، والذي بات واضحاً أنه لا يستسيغ إعطاء الفرصة للمجموعة الآسيوية بتقليص ـــــ إن لم يُقَل تحدي ـــــ سيطرته التقليدية. أسئلة تطرح نفسها، ونقاشات عديدة تتداولها النخبة بشأن ما إذا كانت آسيا ستستطيع مشاركة الغرب في نظام عالمي جديد، أو سترضخ لإبقائها هامشية الحضور السياسي في المنظومة العالمية، وإبقاء دورها مقتصراً على العمالة الرخيصة، والإنتاج السلعي للمجتمع الاستهلاكي الغربي؟

علاقة تاريخية مع الحاضر

أصبح «الغرب التقليدي» (الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية) مهيمناً خلال القرنين الماضيين فقط، ولكن في الـ2000 سنة قبلهما كان «الشرق» هو القوي، وخاصةً الصين والهند، مما يجعل النهضة الأخيرة لآسيا بمثابة عودة إلى المسار الطبيعي التاريخي. هذه النهضة بدأت من النمور الآسيوية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، لتنسخ منها «الصين الشيوعية» (المتعلّمة أفضل الدروس من انهيار الاتحاد السوفياتي سابقاً)، وتجرّ معها الهند العملاقة لاحقاً.
الفرق الأساسي بين الغرب التقليدي وآسيا الحاضرة، أن الأخيرة أخذت عِبراً من المسار الذي اعتمدته الولايات المتحدة، وقبلها أوروبا، فتجنّبت الحروب والصراعات الإقليمية، بكونه «المسار الطبيعي لتطوّر المجتمعات»، واتخذت استراتيجية موحّدة غير معلنة هدفها مشاركة الغرب في نفوذه مستقبلاً كنتيجة طبيعية، وتجنّب صراع الحضارات أو الهيمنة الأحادية اللذين بشّر بهما صموئيل هانتنغتون.
خلال الأعوام الثلاثين الماضية، كانت الصين أكثر الاقتصادات نموّاً في العالم من غير إهمال بنيتها العسكرية. نما اقتصادها من 147 مليار دولار عام 1987 إلى 1.6 تريليون دولار عام 2004، ليصل اليوم إلى 4.9 تريليونات دولار، أي ثلاثين ضعفاً، يصاحبه احتياطي أجنبي يفوق تريليونَيْ دولار. لأول مرة تخطّى الاقتصاد الصيني حجم الاقتصاد الياباني، البالغ 4.7 تريليونات دولار.
العملاقان الآسيويان، الصين والهند، وجدا أنه في غياب الصدام العسكري، ستحاول الولايات المتحدة تحجيمهما (لفقدان الأمل في دفعهما للتخبّط داخلياً، كما فعلت مع الاتحاد السوفياتي). لكنهما استبقا ذلك بتصدير فورتهما الاقتصادية إلى الجوار، ورفع التبادل التجاري بينهما ومع مجموعة جنوب شرق آسيا (ASEAN) عبر إقرار معاهدات إقليمية (ولو أن أوروبا اعتمدت هذه الاستراتيجية مع جاراتها الأفريقية والشرق أوسطية لكان العالم أكثر أماناً اليوم).

مفارقات

أسوأ ما كان ممكناً حصوله للغرب هو الأزمة المالية العالمية الأخيرة التي كادت تطيح النظام المصرفي العالمي نتيجة ممارسة الرأسمالية المتوحشة من دون حدود، حتى وصل حجم الدين العالمي إلى 57 تريليون دولار. الزلزال الذي ما زالت تردّداته مستمرة جاء بعد عنجهية مارسها الغرب ابتداءً من أوروبا، وبريطانيا بالتحديد، حتى الولايات المتحدة في الأعوام المئتين الفائتة. هذه المجموعة التي كانت مهد الثورة الصناعية والإبداع التكنولوجي أصبحت خدماتية واستهلاكية إلى حد كبير، وانتقل الإنتاج منها تدريجاً إلى أميركا اللاتينية، ولكن بالإجمال إلى التنين الكبير الذي أصبح لهيبه يؤرّق يومياً الغرب التقليدي: آسيا.
مجموعة من الدول ضمّت تكتلات اقتصادية أهمها اتحاد دول جنوب شرق آسيا (ASEAN) والهند وكوريا وإندونيسيا والصين واليابان، تعلّمت من درس مساوئ الإقراض المفرط، فضبطت مالياتها (ما عدا اليابان، الواقعة تحت عجز ميزانية ومديونية مرتفعة تعوّضه بفائض في الميزان التجاري الضخم)، بينما دخلت المجموعة الأوروبية وأميركا في نفق المديونية وعجز الميزانيات والركود، إضافةً إلى ارتفاع البطالة وكلفة التقديمات الاجتماعية، من صحة وتعليم وشيخوخة، فضلاً عن الأزمات السياسية والعسكرية في أفغانستان وباكستان وإيران والعراق والخليج وفلسطين.
آسيا تنمو وتنتج وتستغل إيجابيات الوجود العسكري الغربي؛ ففي أفغانستان مثلاً، تدفع أميركا وأوروبا بجيوشها خوفاً من سيطرة طالبان، بينما تتفرّج الصين والهند وروسيا وإيران من غير تضحية، مع العلم بأن لكل هذه الدول مصلحة في استقرار أفغانستان. بالنسبة إلى الصين، فإن أفغانستان مصدر غير مُكتشَف للمواد الأولية، بينما تعدّها الهند كباكستان مصدر قلق لها، وروسيا تخاف من امتداد الحركات الإسلامية الأصولية إليها.
في الغرب تتراجع الطبقة المتوسطة بينما تنمو في الشرق بوتيرة تصاعدية؛ الطبقة المتوسطة المسؤولة عن استقرار المجتمع سيرتفع عدد أفرادها في الصين وحدها من 56 مليون نسمة عام 2000 إلى 361 مليوناً عام 2030، أي أكثر من عدد سكان الولايات المتحدة. فضلاً عن أن أكثر من 400 مليون نسمة سيتخطّون الحد الأدنى من الدخل اليومي. وسيكون 80 ـــــ 90 في المئة من حَمَلة الدكتوراه في العالم من آسيا، بحسب تقرير لمجلة «تايم». هذا النمط هو الذي أسهم تاريخياً في سيطرة الغرب. مثال آخر: ارتفعت حصة آسيا في التصدير التكنولوجي من 7 في المئة عام 1980 إلى 25في المئة، بينما انخفضت حصة الولايات المتحدة، التي خرّجت أكثر من 50 في المئة من الطلاب الآسيويين في جامعاتها، من 31 في المئة إلى 18 في المئة في الفترة نفسها. تعيش بساطة آسيا اليوم ثورة في العلم والموهبة تنتج ثورة في التكنولوجيا.

أين «الغرب التقليدي»؟

قد يكون واهماً مَن يرى أن النفوذ التاريخي الأخير للغرب التقليدي في أنفاسه الأخيرة. حتى اليوم ما زال يستحوذ على 62 في المئة من الإنتاج العالمي، مع العلم أن كتلته السكانية تساوي حوالى 14 في المئة من سكان المعمورة، وما زال قطاعه الخاص الأكثر دينامية، حيث إن 74 في المئة من الشركات الكبرى في العالم تنتمي إليه. إضافةً إلى ذلك، فالاقتصاد الأميركي ما زال الأكبر حجماً في العالم (14.4 تريليون دولار)، والأوروبي كمجموعة (18.4 تريليوناً). ولأن الغرب كذلك، فإنه لن يتخلى عن غطرسته التقليدية المتمثّلة في سيطرته على مجلس الأمن (3 دول من 5) وصندوق النقد الدولي (رئيسه أوروبي دوماً) والبنك الدولي (رئيسه أميركي دوماً). لن يقبل الغرب بسهولة تمثيل 86 في المئة من البشر في العالم في هذه المؤسسات إلّا رمزياً. ومع أن المجموعة الآسيوية تتصرّف بودّ تجاه الغرب، فالأخير لا يثق بالنيات، ولا يأخذ في الاعتبار أن تصرفات كهذه هي التي تؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي والأمني العالميين.
ما زال هذا الغرب المتغطرس يعيش نشوة النصر بعد الحرب العالمية الثانية، ويحدّد للآخرين النهج والتصرف والسلوك، وخصوصاً بعد نجاحه في تفكيك غريمه الأشرس، الاتحاد السوفياتي (لذلك اعتمدت الصين على مركزية السلطة بالتوازي مع الانفتاح الاقتصادي التدريجي).

بين «الشرق والغرب»

يواجه الغرب اختياراً صعباً حالياً وفي القريب المنظور، بين المصالح الضيقة القصيرة المدى من خلال سيطرته على المؤسسات الدولية، وانتشاره العسكري من جهة، وبين السلام العالمي من جهة أخرى. مثلان يُحتذى بهما، أوّلهما أن الغرب يستدين من آسيا (الولايات المتحدة مديونة للصين وحدها بحوالى تريليون دولار، ولسنغافورة بحوالى 200 مليار دولار) ولا يأخذ في الاعتبار تمثيل 4 مليارات نسمة من البشر.
وثانيهما أن أوروبا الضعيفة العجوز تحظى بتمثيل في مجلس الأمن يفوق حجمها الحالي، بينما يرفض الغرب تمثيل الهند (مليار نسمة).
هذان المثلان هما دليل على المواجهة المستقبلية بين آسيا والغرب، بدل اعتماد سياسة المشاركة والاحتواء كما يريد الآسيويون.
الوجود العسكري والتنافس على الثروات
هذه التصرفات الغربية التي تنمّ عن عنجهية وغطرسة لا تتماشيان مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية في العالم، هي التي تدفع إلى السؤال: إلى متى سيرضى 86 في المئة من سكان العالم بهذا الواقع؟ ويرضخون لإغلاق أبواب المشاركة إن لم يكن في النفوذ، فعلى الأقل لإيجاد الحلول لمشاكل أوجدها الغرب التقليدي نتيجة ممارساته، أهمها عدم نزع السلاح النووي، وارتفاع حرارة الأرض، وخرق اتفاق الدوحة، فضلاً عن كوارثه في احتلال العراق وأفغانستان، وما تخللهما من انتهاك لحقوق الإنسان، وتخاذله في الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، عدا اعتماد التعذيب وقمع الحريات. بدا الغرب كأنه يناقض المبادئ التي تأسّس عليها، بينما اقتبستها آسيا، وبنت مجتمعاتها.
لهذه الأسباب وغيرها تزداد الشكوك وعدم الثقة بين الطرفين، بالرغم من كل المصالح المشتركة بينهما. ولذلك، ينمو حجم الإنفاق العسكري في آسيا بوتيرة قد لا يتعايش معها الغرب. ولكن تجربة احتلال أفغانستان ومعالجة الأزمة مع إيران، تضع علامات استفهام كبرى حول تمكّن الغرب من مواجهة الصين (7 ملايين جندي، بينهم 2.3 مليون متفرغ، و800 ألف احتياط، و4 ملايين شبه عسكري) أو الهند (3.8 ملايين جندي، بينهم 1.4 مليون متفرغ، و1.15 مليون احتياط، و1.3 مليون شبه متفرغ)، أو روسيا (3.9 ملايين جندي، بينهم 1.5 مليون متفرغ، و1.9 مليون احتياط).
وإذا كان الغرب يراهن على مواجهة إقليمية في آسيا، فقد يكون واهماً، لأن أكثر النزاعات تحلّ سلمياً، مع العلم بأن الاشتباكات العسكرية التقليدية دولياً باتت معدومة مع تكنولوجيا الصواريخ الحديثة.
طبعاً، هذا لا يعني أن الأطراف الإقليميين الآسيويين لا يأخذون الحذر بعضهم من بعض. فبين الصين والهند 4000 كيلومتر من الحدود، والأخيرة لها قواعد على حدود طاجيكستان، وترسل حاملات طائرات إلى منطقة البنغال والخليج العربي. ولكن يأتي النمو العسكري

العملاقان الآسيويان وجدا أن الولايات المتحدة ستحاول احتواءهما فاستبقا ذلك بتصدير فورتهما الاقتصاديّة إلى الجوار

آسيا تنمو وتنتج وتستغل إيجابيات الوجود العسكري الغربي، والطبقة المتوسطة تنمو في الشرق بوتيرة تصاعدية فيما تتراجع في الغرب

مع توازن سياسي وتنسيق استراتيجي لضمان الحصول على موارد مستمرة من المواد الأولية والنفط والغاز. لذلك كان الدخول الصيني إلى أفريقيا استراتيجياً، حتى أصبحت القارة الأفريقية مركزاً لأكبر تجمّع صيني خارجها، واستثمرت الصين ما يفوق 150 مليار دولار في الإنتاج وامتلاك المناجم وتطوير آبار النفط، إضافةً إلى المواد الأوليّة.
في السياسة، تمثّل إيران أهم رموز الصراع المخفي بين الغرب وآسيا، وخاصةً الصين وروسيا. الغرب يريد إضعاف، أو حتى إنهاء النظام في إيران، بينما تجد الصين في طهران إحدى ركائز أمنها للنفط والغاز، فضلاً عن أنها خط الدفاع الأول في مواجهة الغرب لمنعه من التمدّد نحو آسيا، بعد سيطرته على الخليج من خلال وجوده العسكري الكثيف، وحلفه مع الأنظمة القائمة.
الدليل على ذلك هو عدم استطاعة الغرب حتى الآن فرض شروطه على إيران في ما يتعلق بملفها النووي، أو في موقفها من الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، بالرغم من أن إسرائيل هي ركيزته الأساسية في المنطقة لا دول الخليج المطلوب منها ضمان تدفّق النفط فقط، وإلّا لما اكترث لها الغرب إطلاقاً.

إلى أين؟

الصراع بين الطرفين في بدايته، والنفوذ الغربي الدولي الحالي مقارنةً بالنفوذ الآسيوي يتناقض مع حجم الاقتصادات والتجارة الخارجية والمجتمعات والقوى العسكرية للطرفين. وإذا لم يعتمد الغرب سياسة الاحتواء للمجموعة الآسيوية عبر تمثيلها في المؤسسات والهيئات الدولية ودعوتها عبر فتح الأبواب لها للمشاركة في إيجاد نظام عالمي جديد يطرح الحلول للمشاكل العالمية، فإن العالم، وبالرغم من الانفتاح الآسيوي، سيتّجه إلى صدامات لا يمكن توقّع نتائجها. وللأسف، فإن منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا هما أكثر المناطق المؤهّلة لتفجير الخلافات الدفينة، وما يترتّب عليها من صراعات.
تاريخياً، السياق الطبيعيي للعوامل النفسية والسوسيولوجية والاعتبارات الجيوسياسية لا يطمئن إلى أن الغرب سيعتمد تصرفاً إيجابياً طوعياً، وأن الغطرسة عادةً لا تنضبط إلّا بعد كوارث وويلات يعود العالم بعدها إلى الانتظام في السنوات اللاحقة. هل مَن يذكر الحربين العالميتَين الأولى والثانية؟ وهل مَن يصدّق أن «الغرب التقليدي»، الذي نما إلى ما هو عليه على تعاسة الشعوب الأخرى وبؤسها، وعلى استنزاف الموارد الطبيعية للدول الضعيفة والمهمّشة، سيشاركها قريباً لتحجيم نفوذه؟