وصلت العلاقات الألمانيّة الإسرائيليّة في الأسابيع الأخيرة إلى ذروتها من الغزل المتبادل، مع وجود نصف حكومة الدولة العبرية ورئيسها ورئيس وزرائها في برلين للاحتفال بمرور 65 عاماً على ذكرى المحرقة النازية. لكن ألمانيا تأبى أن تخرج من تحت يوتوبيا «عقدة الذنب» لتتحرر من مسؤولية تاريخية باتت أثقل من أن يتحمّلها دافعو الضرائب من الشعب الألماني
معمر عطوي
أكثر ما كان لافتاً في ذكرى المحرقة النازية هذا العام، إلقاء الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، كلمة أمام البرلمان الاتحادي «البوندستاغ» في عاصمة الرايخ الثالث، برلين، في خطوة غير مسبوقة. لكن ما هو مسبوق ومكرّر في هذا الحدث، هو استئناف عزف سمفونية الاستغلال والابتزاز للحكومة الألمانية، عبر تجديد طرح مظلومية اليهود (الذين لم يكونوا وحدهم ضحايا للحكم النازي).
وببكائيّة ممزوجة بدعوة ثأرية تستحضر أدبيات إسرائيل والحركة الصهيونية عبر التاريخ، طالب بيريز بمعاقبة مجرمي الحرب النازيين الذين لا يزالون على قيد الحياة.
من جهتها، الصحف ووسائل الإعلام الألمانية نقلت هذه «الاحتفالية» التي جمعت ممثلي الضحية والجلاد، على أنه حدث تاريخي من شأنه تأكيد أهمية «العلاقة الخاصة» بين ألمانيا وإسرائيل وحميميّتها.
وذكرت صحيفة «مورغن بوست» أن كلمة بيريز أمام البرلمان الاتحادي، هي الأولى لرئيس إسرائيلي يحضر الذكرى السنوية للمحرقة النازية في «بوندستاغ» منذ إرساء العلاقة بين الدولتين في عام 1952. وسلّطت الصحيفة ـــــ كزميلاتها ـــــ الضوء على جولة سياحية قام بها بيريز (86 عاماً) برفقة عمدة برلين، كلاوس فوفيرايت (من الحزب الاشتراكي الديموقراطي ـــــ SPD)، زارا خلالها بوابة براندنبورغ الشهيرة، التي كانت تفصل بين شطري العاصمة أيام انقسام ألمانيا إلى شرقية وغربية (1949-1989).
ولم يكن حضور بيريز في هذه المناسبة مجرد حدث بروتوكولي، بل كان محاولة إسرائيلية لتثبيت عرى المظلومية اليهودية في الثقافة الألمانية الحديثة، التي لا تعرف عن تاريخ الرايخ الثالث سوى بعض القصص التراجيدية، لذلك تضمنت كلمته هذه العبارة «لا نضع نصب أعيننا الانتقام، بل التربية». وفي هذا القول، استحضار لبروباغندا الظلم الذي لحق ببني جلدته، حتى تبقى الأجيال الصاعدة في ألمانيا وأوروبا تعيش كآبائها وأجدادها عقدة الذنب تجاه إسرائيل، وفي ذلك ابتزاز من شأنه أن يدرّ على الدولة العبرية مساعدات إضافية، وامتيازات تحلم بها باقي الدول المجاورة لها.
حضور بيريز كان محاولة لتثبيت عرى المظلوميّة اليهوديّة في الثقافة الألمانيّة
وللتذكير هنا، فقد وقّعت الحكومة الألمانية وإسرائيل في عام 1952 اتفاقية دفع التعويضات، التي اعترفت فيها الدولة الألمانية بالمسؤولية عن قتل اليهود الأوروبيين على أيدي النازيين. كما التزمت ألمانيا بدفع تعويضات مالية لليهود الناجين من المحرقة وللدولة العبرية. وتعهّدت بون آنذاك في أجَل أقصاه عام 1965، بدفع ثلاثة مليارات مارك ألماني (عملة البلاد آنذاك) أي ما يعادل نحو مليار ونصف مليار يورو. كذلك دفع 450 مليون مارك ألماني للجنة المطالبات، التي مثّلت المصالح الفردية لليهود الذين تعرّضوا للملاحقة من النازيين.
اللافت أن مشاركة بيريز في هذه المناسبة هذا العام، كانت محاطة برعاية واهتمام رسميين بالغين، من رأس الدولة الاتحادية، هورست كولر، مروراً برئيس البرلمان، نوربرت لاميرت (الحزب المسيحي الديموقراطي ـــــ CDU)، ورئيس كتلة الحزب الاشتراكي الديموقراطي (SPD)، ينز بورنسن، ورئيس المحكمة الدستورية الاتحادية، هانز يورغن بابيير، وصولاً إلى المستشارة أنجيلا ميركل. وبذلك، تؤكد الدولة الألمانية برؤوسها وأحزابها الفاعلة، أنها لا تزال على سياسة تبنّي أمن إسرائيل وحقها كدولة في الحياة إلى جانب دولة فلسطينية مستقلة.
لكن ما يؤكد اللغة الصنمية والرتابة في هذا المضمار، هو عبارات يصحّ وصفها بالخشبية، لكثرة ما تتكرر، مثل قول رئيس البرلمان، في هذه الدورة الاستثنائية، إن برلين تتحمل مسؤولية تاريخية تجاه الدولة العبرية. وكان كولر، في أول خطاب يلقيه رئيس ألماني أمام الكنيست الإسرائيلي عام 2005، قد أكد أن «مسؤولية ألمانيا عن المحرقة تمثّل جزءاً لا يتجزّأ من هويتها».
لم تكن هذه الاحتفالية سوى توطيد لمسيرة طويلة بين الجانبين، وصلت إلى ذروتها عام 2008، حين اتفقت برلين وتل أبيب على إعطاء علاقاتهما الخاصة «انطلاقة جديدة ذات أبعاد استراتيجية»، وإجراء اجتماعات سنوية تشاورية، عُقد أولها في آذار من العام نفسه.
هذا ما عادت وأكدته ميركل، أمام البوندستاغ، من أن «أمن إسرائيل لا يمكن التفاوض حوله»، وأنه «جزء لا يتجزأ من المصالح الأمنية القومية لألمانيا»، مشيرة إلى التزام بلادها التاريخي بالحفاظ على وجود إسرائيل وعلى أمنها أيضاً، بما في ذلك التعاون في مجال التسليح.
لذلك، أيدت برلين عملية «الرصاص المصهور» التي قامت بها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضدّ قطاع غزة، وراح ضحيتها أكثر من 1400 شهيد فلسطيني، فيما قاطعت ألمانيا مؤتمر «ديربان 2» المناهض للعنصرية في جنيف.
وبدا أن أسرائيل استغلّت حدث ذكرى المحرقة، لتعيد تسويق أدواتها التحريضية ضد إيران والعرب، في محاولة لانتزاع قرارات ألمانية تصبّ في غير مصلحة البرنامج النووي الإيراني أو حقوق الفلسطينيين. من هنا كان خطاب بيريز في البوندستاغ متضمناً وصف طهران بأنها «نظام متعصب، يتجاهل ميثاق الأمم المتحدة. نظام يملك مفاعلات ذرية وصواريخ نووية، يرهب فيها بلده والبلدان الأخرى، هو خطر على العالم».
هذا الخطاب قابله خطاب متعاطف يستخدم تردّدات الموجة الإسرائيلية نفسها، كقول لاميرت «نحن الألمان نتحمل المسؤولية تجاه دولة إسرائيل، التي يتعرض حقها في الوجود وأمنها للتهديد»، مؤكداً «نحن لا نقف على الحياد، في ما يتعلق بإيران، دولة مسلّحة نووياً في جوار إسرائيل، يقودها نظام معاد للسامية عداءً منهجياً، لن يكون غير محتمل فقط لإسرائيل، بل على المجتمع الدولي ألّا يتسامح مع هذا التهديد».
هذا الخطاب تجلّى أكثر في حركة الواقع الاقتصادي، إذ نجح المسؤولون الإسرائيليون في إقناع برلين بإلغاء صفقات تجارية مع إيران. ووفقاً لتقارير إسرائيلية، فقد ألغيت صفقة لترميم وتزويد معدات من جانب شركة ألمانية لميناء بندر عباس الإيراني، فيما تواصلت الضغوط لإلغاء صفقة تزوّد بموجبها إيران ألمانيا بالغاز. وادّعت إسرائيل بأن تنفيذ صفقة ترميم ميناء بندر عباس يعني مساعدة إيران على تزويدها الأسلحة «للمنظّمات الإرهابيّة»، وخصوصاً حزب الله وحماس وخرق قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي.
اجتماع الحكومتين في برلين يتعلّق بإعطاء علاقاتهما الخاصة انطلاقة جديدة ذات أبعاد استراتيجية
الصحف الألمانية تحدثت عمّا طرحه بيريز مع المسؤولين الألمان بخصوص التبادل التجاري بين ألمانيا وإيران، فيما ضرب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عصفورين بحجر واحد، حين شبّه إيران بـ«الحكم النازي»، مذكّراً بالمأساة التاريخية وبالخطر الإيراني الداهم في جملة واحدة، عميقة الدلالات ومشحونة بلغة التحريض.
أمام هذه المعطيات، يصبح وصف الرئيس الألماني لعلاقات بلاده بإسرائيل بأنها «فريدة من نوعها»، تحصيل حاصل، لاستمرار رضوخ ألمانيا ليوتوبيا «عقدة الذنب» و«المسؤولية التاريخية». لذلك جاء في نص الكلمة التي ألقاها خلال مأدبة عشاء أقامها على شرف نظيره الإسرائيلي «أن المسؤولية عن معسكرات الاعتقال ستظلّ جزءاً من الهوية الألمانية»، مشدداً على ما أحرزته العلاقات الثنائية من «تقدم عظيم خلال العقود الماضية».
أما على المستوى التقني، فقد عقدت الحكومتان الألمانية والإسرائيلية في 18 كانون الثاني الماضي، اجتماعاً تشاورياً، وُصف من قبل الجانبين بـ«التاريخي»، وكان برئاسة كل من المستشارة ميركل ونتنياهو، ومشاركة عدد من أعضاء حكومتي الدولتين، ومن ضمنهم وزراء الخارجية والدفاع والتجارة والبيئة والبحث العلمي.
وما هذه الخطوة سوى تجسيد واضح لما اتفقت عليه برلين وتل أبيب العام الماضي، في ما يتعلّق بإعطاء علاقاتهما الخاصة انطلاقة جديدة ذات أبعاد استراتيجية.
لكن الأمر الأكثر أهمية، وإثارة للجدل في هذه العلاقات المتنامية بين الجانبين، هو التقدّم الحاصل على صعيد المفاوضات الثنائية المتعلقة بشراء أحدث الغواصات من طراز «دولفين»، التي تصنعها شركة «اتش دي دبليو» الألمانية، والتي تملك إسرائيل ثلاث غواصات منها (تبلغ قيمة الغواصة 700 مليون دولار، لكن وزارة الدفاع الإسرائيلية حصلت على سعر مخفوض).
الخطورة في الأمر هي أن هذه الغواصات قادرة على حمل صواريخ نووية. وذلك في وقت ترى فيه إسرائيل أن تعزيز ترسانتها العسكرية في الوقت الراهن أمر «ضروري في مواجهة التحدي الإيراني».


«دولفين» لتغطية جميع التهديداتويعتقد الكثير من المحللين أن غواصات «دولفين» هي الأسلحة التي تحتفظ بها إسرائيل «للضربة الثانية»، وهو مصطلح يشير إلى نظرية قامت خلال الحرب الباردة على أن أي دولة يمكنها أن تردع أعداءها عن شنّ هجمات نووية بالاحتفاظ بقدرتها على الرد حتى لو دمرت أراضيها. ويمكن للغواصة حمل صواريخ نووية تقدر على إصابة أهداف على بعد 1500 كيلومتر.