رأيت الرئيس الفنزولي هوغو تشافيز مرتين خلال سفري، مرة «مذيعاً» في حفل تدشين إذاعة، ومرة «خطيباً» في ذكرى أحداث تركت مئات من الضحايا عام 1989. ورأيته أيضاً يدخل عليّ ليلياً في غرفة النزل بواسطة التلفزيون، تارةً «مطرباً» يشرح بالغناء علاقته بإسبانيا، وطوراً «معلمَ مدرسة» يهنئ أو يوبّخ من وفر أو بذّر الكهرباء النادرة حالياً بسبب الجفاف في فنزويلا

بول الأشقر
يمرّ هوغو تشافيز منذ انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية (البعض يقول منذ 2007 ومحاولته تعديل دستور الجمهورية الخامسة) بأيام غير مريحة. هو الوجه الآخر للمسار الشخصاني لهذه الثورة التي تلحق خطوات زعيمها وانعطافاته، بسبب حضوره الدائم والإنجازات المنسوبة إليه، والإخفاقات أيضاً.
أبعد من «الثورة» ومن «الاشتراكية»، فنزويلا دولة نفطية أولاً وأخيراً. احتياطها النفطي صار يقدّر بضعف النفط السعودي، مع أن استخراجه وتكريره أصعب وأغلى. تبسيطاً، وصل تشافيز إلى السلطة بسبب انخفاض سعر النفط الذي عطّل «البحبوحة» التي عرفتها البلد في السبعينات. وحقق إنجازاته بسبب ارتفاع سعر النفط بدءاً من عام 2003. وانكشفت ثُغره مع انهيار سعر النفط، وسيتحسن وضعه إذا استمر ارتفاع سعر البرميل.
خصوصيّة أزمة تشافيز الراهنة أنه يواجه مشاكل ليس من السهل عليه تسييسها لربطها بمسار ثورته، ولا يكفي النفط لحلحلتها. أبرزها مرتبطة بالجفاف الذي حلّ على فنزويلا منذ أكثر من 18 شهراً، وخفض منسوب المياه في بحيرة غوري (توفّر 80 في المئة من الطاقة الكهربائية) إلى مستوى قريب من الصفر. وتشافيز يحاول بشتى الوسائل منع انهيار نظام الطاقة ـــــ بشراء معامل وعقد اتفاقات مع الجيران وفرض التقنين ـــــ للوصول إلى شهر أيار وهو شهر الأمطار التقليدي، حيث من المفترض أن تتضاءل تدريجاً المشكلة.
كذلك يعاني مشكلة الوضع الأمني القديمة والمتفجرة، التي تشتد سنة بعد سنة، مقرّبة فنزويلا من أرقام كولومبيا القياسية، ومحوّلةً كراكاس إلى إحدى أعنف المدن في العالم: 85 في المئة من الناس يندّدون بانفلات الوضع الأمني، بينهم 78 في المئة من التشافيزيين.
يدفع تشافيز ثمن هذه المشاكل وغيرها مثل التضخم (فنزويلا أغلى دولة في أميركا الجنوبية) من شعبيته التي انخفضت خلال السنة الأخيرة من 61 في المئة إلى 41 في المئة.
من حظ البلد أن الرجل ذكي، المشكلة أن المحيطين به غير مؤهلين
رقم محترم إذا ما قورن بشعبية الكثير من الحكام، وخصوصاً أن ولايته مستمرة حتى 2013 وشعبية أول معارض دون عتبة الـ10 في المئة حسب استطلاع مؤسسة شركة «داتا أناليزيز»، التي يقول مديرها لويس فيسينتي ليون إنه «بالرغم من تراجع شعبيته، وضع تشافيز مثل عضو مجلس إدارة كان يملك 61 في المئة من الأسهم، ولم يعد يملك إلا 41 في المئة، ولكنه لا يزال يسيطر على الشركة لأسباب عدة، أهمها أن الـ 59 في المئة الباقين لا يكوّنون رأياً واحداً ولا مشروعاً متماسكاً، ولأن تشافيز يستطيع جيداً استعادة هذه الشعبية إذا تغلب على الظروف التي يحمَّّل مسؤوليتها الآن».
«في العمق، الحالة الفنزويلية ناتجة من رجل وحيد اسمه تشافيز، والقادة اليساريّون الآخرون يعتاشون منه، وهو الذي يجعلهم موجودين، ومن حظ البلد أن الرجل ذكي. المشكلة أن المحيطين به غير مؤهلين، ما يجعل الثورة تغرق في البيروقراطية والفساد». هكذا يقول هكتور إسكوبار، الذي التحق بالكفاح المسلح في سبعينيات القرن الماضي، وصار يرى اليوم في تشافيز التكملة الطبيعية لطموحاته الشبابية. «بالرغم من شعبيته المميزة، للحقيقة هوغو تشافيز رجل وحيد، ليس لديه كتاب يقرأ فيه. كل ما لديه حدسه. ليس عنده نص منزل، ومبدأه أن الطريق يتحدد بالعمل، وهو ما يسميه الراءات الثلاثة (بالإسبانية): المراجعة، والتصويب، وإعادة الانطلاق. والتغييرات التي يجريها باستمرار في المحيطين به ليست إلّا محاولة للتأقلم مع الطارئ».
يضيف صحافي عتيق عايش من داخل قصر ميرافلويس خلال فترة وجيزة كيف تدار الأمور: «أحياناً التغييرات هي لمعالجة الفساد الذي هو جزء مكوّن من مجتمع نفطي ريعي. أحياناً لتكليف بعض الطاقات بمهمّات طرأت عليه، وأحياناً لعدم حرقها عبثاً».
وحدانية تشافيز تعود إلى الفراغ الذي يحيط به، وإلى صعوبة ـــــ كي لا نقول استحالة ـــــ بناء رجل جديد في إمارة نفطية مهووسة بالاستهلاك وجامحة للعمل الدؤوب وتُخدرها لعبة البيسبول وموسيقى السالسا واللهجة الخطابية مواليةً كانت أو معارضة، هذا كله صحيح.
ولكنها تعود أيضاً إلى العقلية العسكرية التي تربّى عليها تشافيز «المؤمن بما يقوم به»، الذي يحاول حل المشاكل المتعثرة بـ«لجان طوارئ». هذه العقلية التي أدت إلى إبعاد، أو ابتعاد، أقرب المقربين منه، مثل لويس ميكيلينا، الذي هندس انتخابه الأول، والذي كان يقول عنه تشافيز «لو يجاز للمرء اختيار أبيه، لكنت قد اخترته أباً»، أو الجنرال بادويل الذي أدّى دوراً حاسماً في عودته إلى السلطة بعد انقلاب عام 2002. وهذا الصمت المدوّي الذي لم ينكسر يوماً في القمة التشافيزية ـــــ في القاعدة، الوضع مختلف ـــــ يجعل من «التشافيزية» نظام حكم يغذّي الوحدانية، فيه زعيم أوحد، يليه مباشرةً الرجل الثامن.
أخيراً وليس آخراً، تعود هذه «العزلة القسرية» إلى نهجه الشخصاني الذي يتابع أجندات عدة ليست بالضرورة متطابقة في ما بينها كمشاكل فنزويلا وحواره التاريخي مع بوليفار... والآن مع كاسترو.
سألت خيسوس، مدير إذاعة معارضة تعمل في الأحياء الشعبية، إذا كان بوسعه إعطائي تقويماً موضوعياً لرجل يصرّ، عكس المعارضين، على تسميته «الرئيس»: «له حدس رهيب وأفكار أحياناً لامعة وقدرة نادرة على توليفها وترويجها يحسده عليها أيّ خبير في الدعاية، ولكنه فاشل في متابعتها وفي إدارتها. وهو أول نموذج ناجح لحكم تلفزيوني؛ عندما يكون الجهاز شغالاً، يُشعرك بأنه يستطيع كل شيء، وعندما ينطفئ الجهاز، ينتهي السحر ويعود الوضع إلى حقيقته. إنه ظالم بحق نفسه، أو ليس كثيفاً بأفكاره، اختَر الخلاصة التي تناسبك».
له حدس رهيب وأفكار أحياناً لامعة، ولكنه فاشل في متابعتها وإدارتها
إن بنية شعبية «الشيخ الأحمر» ـــــ الذي فعل بنفطه في الداخل (وفي الخارج مع الدول الفقيرة) عكس ما فعله الباقون ـــــ لا تمتّ بصلة إلى الأمراء العرب. وتمثّل ظاهرة فريدة حقيقية تقرّبه من هيكلية شعبية الرئيس البرازيلي لويس ايغناسيو لولا دا سيلفا في المجال الإقليمي، أو الإيراني محمود أحمدي نجاد في المجال النفطي.
وتحافظ هذه الشعبية على خصائصها الإحصائية في الصعود والهبوط: أكثر شعبية بين منخفضي الدخل والتحصيل العلمي المتدني، أقل شعبية بين النساء والشباب. مناطقياً، شعبيته الحالية تبقى عالية في ولاية لارا (ترك أخيراً الحاكم هنري فالكون حزب تشافيز من دون أن يترك قيادة تشافيز مشتكياً من «قلة الحوار» معه) وفي الغويانا، منطقة شاسعة ومقر توافر النفط الجديد. وتبقى كالعادة ضعيفة حول بحيرة ماراكايبو، مقر النفط التقليدي، وضعفت على الحدود مع كولومبيا بسبب الإقفال المستمر «رداً على القواعد الأميركية في كولومبيا».
يعترف المعارضون ـــــ عادةً بحسد ـــــ لتشافيز بقدرته على إقناع الفقراء، وفي الحقيقة قدرته على إقناع الآخرين: «سحر تشافيز وسره هما قدرته على الإيحاء لمحاوره أياً كان بأنه أهم منه كمدخل لإقناعه»، تقول عارفة ومسحورة. وتتابع «وعندما يكون الآخر فقيراً (أو فقيرة) أباً عن جد، فالسحر بالتأكيد يتغلغل أبعد من ذلك بكثير، وخصوصاً إذا كان يرافقه بيت أو عمل أو مدرسة أو طبيب. بهذا المعنى، أعطى تشافيز الفقراء حلماً وأملاً... ووعّى الجميع ـــــ من معه ومن ضده ـــــ على أن المستقبل بأيديهم. يكفي للتأكد من ذلك التوقف على نسب المشاركة عندما تكون شخصية تشافيز على المحك». إذا كانت الديموقراطية تقاس بمشاركة الناس، أو باحترام نتائج الانتخابات أو بانتشار الصحف والتلفزيونات المعارضة، ففنزويلا بلد ديموقراطي. أما إذا كانت تقاس بتكافؤ الفرص بين المتنافسين أو بفصل السلطات ـــــ ومنها سلطتا الدولة والحزب ـــــ فالصورة أكثر تشويشاً.
لا تهتم بهذه الأمور ماريا الزنجية ـــــ فنزويلا مثل البرازيل ترفع راية المساواة العرقية، ولكن الواقع أكثر تعقيداً ـــــ التي تخدم في مكتب فخم في برج مطل على «بارك الشرق». «دخل البراد واللحم معاً إلى بيتي. وقبل البراد أصلاً، لم يكن لديّ أكل يحتاج إلى برّاد. بل دخلا مع تشافيز». منذ أن بدأ يحاكيها (صفات تشافيز الأساسية حسب مؤيديه أنه «يضمنا، يتكلم بلغتنا، يتواصل معنا، يعرفنا ...»). اقترعت مرة وحيدة ضده، نكايةً بمسؤول تشافيزي في الحي. وقت خسر الاستفتاء على تعديل الدستور عام 2007، خسارته الوحيدة. «بعدها، شعرت بحزن عميق لم يفارقني إلّا بعد ستة أشهر عندما عدت وصوّتت له في انتخابات حكام الولايات».
من المرجّح ألّا تتوقف ماريا عن التصويت له، إلا إذا، أو بالأحرى حتى إذا انهارت الكهرباء وتعطل البرّاد وفسدت اللحمة.


براز الشيطان