بوتين يستعيد بطولاته الشيشانيّة... وحملة على تقصير الأجهزةربى أبو عمّو
روسيا ليست على ما يُرام. مواطنوها ينثرون الورود على قبور أقربائهم وأصدقائهم. شعروا بخيانة رئيسهم ديميتري مدفيديف لهم، حين أعلن الانتصار على الإرهاب عام 2008. وها هم يعودون إلى الخوف والأطباء النفسيين. الإثنين الماضي كان «يوماً أسود» في روسيا، كما عنونت صحيفة «غازيتا» في افتتاحيتها الثلاثاء، بعد مقتل 39 شخصاً في انفجار مزدوج في مترو الأنفاق في موسكو. وبعد السواد، كان الحداد.
وبينما كان الروس يدفنون ضحاياهم في موسكو، أول من أمس، شهدت داغستان تفجيراً ثانياً، أودى بحياة 11 من قوات الأمن الروسية. وأمس أيضاً، قتل شخصان في انفجار سيارة في منطقة خسافيورت في داغستان.
سارع رئيس الوزراء فلاديمير بوتين إلى استرجاع عباراته الحاسمة، التي تميز بها خلال حربه على «الانفصاليين» الشيشان منذ عام 1999. حينها، تعهّد ملاحقة الشيشانيين في كل مكان، مهدداً: «سنمحوهم كما القذارة». أما اليوم، فقال «نحن نعلم أنهم (الإرهابيون) مختبؤون الآن، لكن إخراجهم من قاع البالوعات إلى ضوء الشمس مسألة كرامة بالنسبة إلى أجهزة إنفاذ القانون. أنا واثق بأن هذا سيحدث».
مدفيديف كان حاضراً أيضاً، وبدرجة الحزم ذاتها. أمر كان مقصوداً لإظهار صورة الثنائي بوتين ـــــ مدفيديف في الأوقات الحرجة، فلم يكن منه إلا أن شدد على «أننا لن نسمح للإرهابيين بزعزعة الوضع في روسيا».
وبعد الإدانة كانت الاتهامات، التي شملت حلقتها أكثر من طرف، صبت معظمها في منطقة القوقاز الشمالي. احتمالٌ لم يبعد أصابع الاتهام عن الاستخبارات الجورجية. وربط بعض الضباط الروس الرفيعي المستوى بين منفذي التفجيرات والخارج أو «الغرب»، بشخص الولايات المتحدة.
ورغم إعلان أحد آخر زعماء التمرد الشيشاني دوكو عمروف، مسؤولية جماعته «إمارة القوقاز» عن هجوم موسكو، متوعداً روسيا «بالمزيد من الهجمات. فالدم لن يقتصر من الآن على مدننا وبلداتنا. الحرب قادمة إلى مدنهم»، تبقى القضية مفتوحة على احتمالات أخرى.
يشير الاحتمال الأول إلى فرضية أن تكون «إمارة القوقاز» نفذت عملياتها انطلاقاً من قناعاتها الجهادية الشخصية. وقالت المتخصصة في المنطقة يوليا لاتينيا إن «شرارة إسلامية تنتشر في كل جمهوريات القوقاز الشمالي باستثناء الشيشان، حيث نجحت مكافحة المتمردين بفضل رمضان قديروف». وداغستان هي إحدى هذه الدول، لما تعانيه من فقر وجريمة متفشية وصراع قبلي، يجعل منها أرضاً خصبة للتمرد.
أما الاحتمال الثاني، فيذهب من خلاله بعض المحللين إلى تورط أجهزة خارجية في هذه التفجيرات، بغض النظر عن الجهة المنفذة. فجهاز الأمن الفدرالي الروسي كان قد لمّح بعد ساعات من وقوع تفجير موسكو إلى احتمال ضلوع الاستخبارات الجورجية.
ويضيف المحللون إنّ جورجيا تعني أميركيا، التي ترغب في الضغط على روسيا من خلال التفجيرات، وإجبارها على تقديم مزيد من التنازلات في إيران وأفغانستان، إضافةً إلى «اعتبار جميع الجماعات المسلمة إرهابية، بما فيها حماس وحزب الله».
ويستند المحللون إلى ما قاله وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان بعد تفجير موسكو، حين شدد على أن «محاربة الإرهاب هي مهمة عالمية لأنه ما من بلد في منأى عن هجمات المتطرفين». كما يشددون على خطورة وقوع أحد تفجيري موسكو قرب جهاز الأمن الفدرالي الروسي.
فرضيتان لا تعنيان أن وقوع التفجيرات كان واقعاً لا بد منه، وخصوصاً أن عدداً من الصحف الروسية تطرقت إلى التقصير الفادح في الأجهزة الأمنية والاستخبارية. نائب رئيس لجنة الأمن في مجلس الدوما، المسؤول السابق في هيئة الأمن الفدرالية، غينادي غودكوف، قال لصحيفة «نوفيي إزفستيا»، إن «وقوع المأساة كان نتيجة أخطاءٍ ارتكبتها الأجهزة الأمنية»، لافتاً إلى تقصيرها «في جمع المعلومات التي تُحذر من وقوع أحداثٍ كهذه، وخصوصاً إذا كانت تستهدف العاصمة». ورأى أنّ «من المتعذر تنفيذ عمل إرهابي بهذا الحجم من دون مشاركة تنظيم ما، على غرار عصاباتِ الجريمة المنظّمة، التي تملك معسكرات لإعداد الانتحاريين».
من جهته، أكد الخبير في الشؤون الأمنية والمسؤول في جهاز الأمن السوفياتي سابقاً، فلاديمير غورنوستاييف، أن «تقصير الأجهزة الأمنية هو نتيجة ما تعرضت له طوال خمسة عشر عاماً من إهانات على يد الأوساط المفرطة في ديموقراطيتها. وقد أدى ذلك إلى تقليص عدد أعضاء جهاز الاستخبارات إلى النصف تقريباً».

خلال العهد السوفياتي كانت موسكو تعلم بظهور أيّ مسدّس في أيّ قرية قوقازية
ويعيد غورنوستاييف إلى الأذهان ما كان عليه الوضع في العهد السوفياتي: «لقد أثبتت الشبكات الاستخبارية فعالية عالية، فلو ظهر مسدس غير مرخص في قرية قوقازية على سبيل المثال، سوف تعلم موسكو به في غضون بضع ساعاتٍ على أبعد تقدير».
وانطلاقاً من هذا الضعف، ارتأى الثنائي بوتين ـــــ مدفيديف اتخاذ عدد من الإجراءات، منها: مراجعة العقوبات المفروضة على «الإرهابيّين» (إعادة العمل بعقوبة الإعدام)، والاستمرار في تنفيذ برامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية في شمال القوقاز، وإقامة نظام شامل لصيانة أمن السكان في وسائل النقل، من خلال تزويد المنشآت الحساسة جداً بالبنى التحتية ووسائل النقل بوسائل وأجهزة خاصة تضمن مقاومتها لأعمال التخريب بحلول 31 آذار 2011، وصولاً إلى تفادي الحالات الطارئة والأعمال الإرهابية، بحلول 1 كانون الثاني 2014.
لا شك أن إعلان جهاز الأمن الروسي اعتقال مشتبه فيهم على صلة بالتفجيرات الأخيرة في موسكو وكيزلار الداغستانية، والتعرّف إلى مدبّريها، قد يعيد بعض الثقة إلى الروس. أما السلطة، فتدرك أن هذه العمليات لن تتوقف عند يوم أمس، وهي ليست نتيجة قتلها عدداً من الزعماء «الجهاديين» في القوقاز، بل هي حرب قد تكون طويلة.