مكتسبات الستينيّات في مهبّ العاصفةباريس ــ ضحى شمس
على «جسر الفنون» الخشبي فوق نهر السين، الذي تطقطق عوارضه تحت أقدام العابرين، جلس بعض الفنانين يرسمون للسيّاح المارين بالمكان ما يتصوّر هؤلاء أنه فن باريسي، يحملون «لوحاته» إلى بلدانهم البعيدة، الأرياف خاصةً، لتتوسط جدران صالوناتهم، وتغذّي بالحكايات اجتماعاتهم العائلية. يتوزّع السياح والفنانون الأدوار بتواطؤ واضح: السيّاح يصورون الفنانين «المستغرقين» في عملهم كأنّ كلاً منهم هو مشروع «فان غوغ». الفنانون يتجاهلون المصورين كأنهم مستغرقون في «الإبداع». «درابزين» الجسر، الذي أعيد بناؤه عام 1982 بعد انهياره السابق، مصنوع من سياجات حديدية. درج العشاق منذ سنين على تعليق أقفال عليه مكتوب عليها اسم الحبيب أو الحبيبة. أما المقعد الخشبي الذي يتوسط الجسر، والذي جلست عليه في فيلم «المشهد من الأعلى» الممثلة الأميركية غوينيث بالترو بأناقة مبالغ بها يعتقدها الأميركيون باريسية، فيجلس عليه الآن شابان وفتاة يلتهمون السندويشات. الثلاثة كانوا الفرنسيين الوحيدين هنا. البقية سيّاح. تتساءل عن سبب وجودهم قبل أن تتنبّه إلى أنها استراحة الغذاء في المخازن الفخمة المواجهة على «الريف غوش»، وأن السندويشات هي أرخص غداء ممكن لهؤلاء الموظفين الشباب. لا يبخل الفرنسيون على أنفسهم بفسحة الغداء عادةً. يحبّون كل ما يمتّ إلى التذوق بصلة. ومرور سريع على مقهى أو «براسري» لتناول غداء ساخن، أو على الأقل طبق مع كأس نبيذ أحمر، لم يكن ترفاً قبل الأزمة الاقتصادية التي تعصف بأوروبا. الأزمة ترخي بثقل متزايد على القلوب والجيوب هنا، فكيف بالشباب، الفئة الأكثر هشاشةً اجتماعياً واقتصادياً؟
يجمع علماء الاجتماع وخبراء الاقتصاد على أن الشباب هم ضحايا الأزمة الأبرز. تتذكر كلام الصبية الفرنسية، التي كانت غارقة في قراءة كتابها على متن الطائرة. الفتاة كانت في زيارة لوالدتها، التي فهمت من تحفّظها على ذكر وظيفتها أنها دبلوماسية. قالت كلوين إن الشباب من عمرها لم يعودوا يرتادون السينما نظراً إلى رقّة حالهم. «6 يوروات؟ أتسمّين هذا سعراً خاصا للطلاب؟». تخبرني أنها تسكن مع أخيها الذي اختار جامعة بعيدة عن باريس لأن «المعيشة أرخص، السكن والنقليات كذلك». الشباب يعودون إلى الأرياف بدلاً من أن يكون اتجاههم المدينة. تقول الشابة إنّ عليها أن تنتظر لتستقل بحياتها، فيما والدتها كانت مستقلة اقتصادياً حين كانت في عمرها. اليوم يبدو كل ما حقّقه جيل الستينيات من مكاسب اجتماعية في مهب العاصفة.
تقول «آن» على إحدى المدوّنات: «في عام 1968 كنا نعمل 48 ساعة أسبوعياً والإجازة كانت 3 أسابيع، سن العمل كانت تبدأ في الـ17. ناضلنا بشراسة. اليوم أصبح أسبوع العمل 35 ساعة والإجازة شهر ونصف شهر، قمنا بما علينا، لكن شباب اليوم غير قادرين».
نسبة البطالة بين الشباب مرعبة: 21.5 في المئة عند الفئة العمرية (15/24) منذ بداية العام، بزيادة 7 أضعاف عن العام المنصرم. النسبة هي الأعلى في الاتحاد الأوروبي. الكآبة والتشاؤم كذلك. 28 في المئة فقط من هؤلاء الشباب يأملون خيراً من مستقبلهم حسب عالم الاجتماع أوليفيه غالان. «الخوف الذي يعصف بالشباب اليوم ليس من النوع الذي كان يحفّزهم على تحدي المصاعب. هو خوف يشلّهم. ما الذي سيحصل لمجتمع شبابه مشلول من الخوف؟» تتساءل كاتبة كبيرة. بعض الطلاب باتوا لا يملكون ثمن استئجار غرفة خادمة بقرب جامعاتهم الباريسية. وباريس، إن كانت لنا وجهة سياحية، هي مدينتهم. بعض الشباب يلجأ إلى مباني قيد الإنشاء للنوم فيها، وينصرف قبل وصول العمال. لا أحد يتكلم عن نسب الانتحار. تتناول الجرائد خبر تزايد نسبة انتحار الشباب ... في الصين. المتخرّجون، منذ سنتين تقريباً، يمضون حياتهم العملية متنقّلين من «ستاج» (تدريب) إلى آخر، من دون أن يتوقفوا عن الدرس، عن الهروب إلى الأمام بالحصول على كفاءات إضافية. لا يكلف «الستاج» رب العمل شيئاً. فهو قد يكون مدفوعاً ( بين 300 و 1000 يورو فيما الحد الأدنى للأجور 1443 يورو) وقد لا يكون. من يوظف بالحد الأدنى للأجور، إن كان يستطيع استغلال الطلاب الواحد إثر الآخر في إطار «ستاج»؟ يقول أحد المعلّقين على الإنترنت، ويضيف «لا تستطيع أن تسقي حماراً ليس عطِشاًً».
الشباب ضحايا الأزمة الأبرز والعبيد الجدد في سوق العمل
بطالة مقنّعة. الشباب أنفسهم يعلمون ذلك، ولكن ما هو البديل؟ الشارع. استبدل المجتمع الفرنسي كنف العائلة كملاذ، بمؤسسات الدولة عبر عقود وعقود. لكن الدولة الراعية انتهت، من دون أن يكون الرجوع إلى العائلة متيسراً. شباب لبنان محظوظون لوجود سقف فوق رؤوسهم. الفرنسيون مصيرهم الشارع. هكذا، يتحول «الستاج»، ما كان يجب أن يكون تدريباً على دخول سوق العمل، إلى عمل بحد ذاته. «إنهم العبيد الجدد» تقول لونا، والدة لين (25 سنة)، التي نجحت بمليون واسطة، في الحصول على «عقد عمل محدود المدة» للمرة الأولى منذ سنتين برغم إجازة الاقتصاد و2 ماجستير في القانون والإعلام. هذا العقد أصبح حلماً اليوم، بعدما كان الهدف «عقد غير محدود المدة». أن يُعترف بهم في سوق العمل الذي شطب 300 ألف وظيفة ما إن لاحت الأزمة، فيما تثابر الجامعات على التخريج بالطبع. تثور لونا إثر ما أخبرتها به ابنتها عن فظاظة رئيسها في العمل. تريد منها أن تستقيل، أن تصفُق الباب بوجهه. لونا تنتمي إلى جيل الستينات. لكن لين، العاملة في إحدى أكبر المؤسسات الفرنسية الصحية التابعة للدولة، لا توافقها. رئيس لين، جنرال سابق، حوّل المكان إلى ثكنة. يستعمل الخوف، وخصوصاً ضد الشباب الجدد. يأمرهم كما لو كانوا جنوداً في بلاد استبدلت لتوها الخدمة العسكرية الإجبارية بالخدمة المدنية. الدولة أعادت «تدوير» الجنرال في مؤسساتها، لكنه «صعب التدوير»، تنكت لين. لونا لا تضحك. شعار المرحلة «اخفض رأسك ليجدّدوا لك... الستاج».
ليست الأزمة الاقتصادية وحدها التي كانت تعصف بفرنسا مستهل أيار. فإلى البركان الإيسلندي، صاحب الاسم الذي لا يلفظ، كان هواء سيبيريا يهب على البلاد ساحباً الحرارة (بين 5 و10 درجات)، إلى أدنى مستوياتها في هذا الفصل منذ 30 عاماً. هكذا أعاد الفرنسيون «تنزيل الشتوي وضبّوا الصيفي». للنكبة هنا معنى آخر: ماذا تفعل المحالّ بمجموعتها للربيع في طقس جليدي؟ لا أحد في محالّ تقاطع سان ميشال ـــــ سان جيرمان الأشهر. فقط بعض السياح. لا أحد يجرؤ على تخيل نفسه في غرفة القياس يجرّب ثوباً خفيفاً بنص كُمّ. ضاعفت محالّ الألبسة من عروضها للحث على الاستهلاك. عدّلت القوانين للسماح بتنزيلات خارج فترة الحسومات المقرّرة نهاية كل موسم. «20 في المئة على قطعتك المفضلة» يقول الإعلان. تبتاع بنطالاً. تدفع مستفيداً من الحسم. تخرج. ثم تعاود الدخول لتشتري القطعة الثانية بالتنزيل نفسه. تبتسم البائعة متواطئة: «سي مالين» (شاطرة)، مضيفة «هذا ما كنت لأفعله».
في الهواء الطلق فقط، أصبح بالإمكان التدخين هنا. ورغم حال الطقس يخرج المدخّنون، المضطهدون الجدد في أوروبا، إلى الشارع لتدخين سيجارة وهم يرتجفون. نجحت الإجراءات، التي اتخذتها الدولة لمحاربة هذه اللذة/ الآفة، في ثني الغالبية العظمى عن التدخين: ارتفاع أسعار السجائر لدرجة مهولة يجعل «كروزين دخان» من السوق الحرة، أفضل هدية للأصدقاء المدخنين. ما خلا الدخان الذي أصبح تصنيفه «على حافة التحشيش»، كما يقول صديق، وحلويات الحلّاب، تحتار ماذا تحمل معك من لبنان إلى عاصمة كل شيء. جنة الاستهلاك. «البراسري»، الصيغة الفرنسية للمقهى المطعم، تعرف رواجاً عند الظهيرة كانت قد خسرته مع «تسونامي» المطاعم الرخيصة الأكزوتيكية الذي اجتاح فرنسا في العقدين الأخيرين: من الصيني (الثمانينات) إلى السوشي (في التسعينات) إلى «الشاورما» المتعددة الجنسيات: تركية أو عربية أو لبنانية. على بار البراسري بإمكانك أن تأكل مجرد بيضة مسلوقة مع ملح، أو باغيت «تارتين» بالزبدة، أو كرواسان وقهوة بأقل من 5 يوروات. «30 فرنكاً فرنسياً» يترجم العجوز المتقاعد، الذي جلس إلى جانبي في الحافلة. وهل يستطيع العيش اليوم بالمبلغ الذي يوفّره له التقاعد؟ يقول إنه لكي يتمكن من إدارة «أمواله» يفكر دائماً في ما ينفقه بعد حسابه على الفرنك القديم. إحصاء أخير قال إن النسبة الأكبر بين الدول الأوروبية التي تطالب بالعودة إلى العملة الوطنية هي في فرنسا. الإحصاء يقول إن الفئات الأفقر هي الأكثر تمنّياً لعودة الفرنك. أما المطاعم التي كانت افتُتحت بأعداد فلكية في «بوم» أوائل العقد الحالي، فقد أخذ الكثير منها بالإقفال. «فوّلت سوشي»، كما كانت قد «فوّلت صيني» قبل ذلك. ليست المطاعم وحدها هي التي تقفل. في المتجر الشهير للعطور، يقف البائع الشاب متأهّباً لخدمتك بلطف بالغ. على الرصيف المقابل للمتجر ذي الواجهة الزجاجية، علّق جاره لافتة تعلن عن تصفية بضائعه قبل الإقفال النهائي. يكاد نظر البائع الشاب يتفادى الواجهة كيفما تحرّك. تحس بأنه حسب المسافة قصداً، فقصر نظره على ما دون الزجاج. في الكيس الذي وضع فيه العطر الذي اشتريته يدس، كما لو كانت رشوة، كومة مبالغاً فيها من النماذج غير المعدّة للبيع. هذا يسمّى «تذبيل عيون» حتى بلغة التجارة.
المطاعم طعامها مسبّق الإعداد بالمصانع الغذائية... ولكل حلوى حكايتها
«المطاعم الفرنسية؟ 80 في المئة من طعامها مسبق الإعداد بالمصانع الغذائية ومحفوظ بتقنية الإفراغ من الهواء». يلقي شبل بقنبلته ونحن نتفحّص قائمة الطعام. يضيف أستاذ جامعة «جوسيو» للاقتصاد إنّ كل المطاعم مهما كان تصنيف مستواها بدأت تعتمد هذا الأسلوب، «وإلّا فكيف يمكنه أن يعطيك طبقاً يومياً فيه لحم وخضار وسلطة وحلوى بعشرين يورو؟» هل يعلم المستهلك بذلك؟ يقول إن المطاعم لا تقرّ، مستشهداً بتحقيق أجراه صحافي من «كانال بلوس»، اضطر إلى تفتيش قمامة المطاعم وتجميع الأغلفة لإثبات ذلك. «الطازج فقط في بعض المطاعم الأجنبية كالفيتنامي أو اللبناني أو الهندي، أما الباقي، فكله من المصنع، فقط يسخن».
لذلك، تستطعم في المطعم الياباني، المسمّى على اسم طباخ الإمبراطور «تورايا»، طعم الطازج فوراً. لا توجد على قائمة الطعام إلا ثلاثة أطباق، هي كل ما يقدمه هذا المطعم ظهراً فقط. وكما كان على أيام الإمبراطور، يخترع «الشيف» أطباقاً جديدة كل شهر، مستوحاة من المناخ ومواسم الطبيعة.
«عيد الصبيان» صادف ونحن هناك. كل شيء مثقف في باريس. أطباق الحلويات مرفقة بأوراق تشرح معناها. شكل الحلويات لا يحتاج كثيراً إلى ربطه بعيد الصبيان. عجينة الأرز البيضاء الملفوفة بالبامبو، رمز الخصوبة، كانت أكثر من موحية مع كرة اللوز الملونة بألوان زهر الكرز الذي وقع اليابانيّون ذات يوم في غرامه ولا يزالون. الهروب إلى الأفكار هو طريقة القاطنين هنا في إيجاد زبائن جدد. فالشبح الحقيقي اليوم في العالم هو انخفاض الاستهلاك. وللمفارقة، على الفرنسيين المفلسين أن يواصلوا الشراء.
السكن مشكلة أخرى. تقول فدوة، التي استأجرت شقة من غرفتين وصالة بألف ومئتي يورو، إنها «لقطة». يجب أن يكون راتبها 3 أضعاف الأجرة ليقبل صاحب الملك تأجيرها. بعض الشباب، في الدائرة العشرين، أصبحوا خارجين عن القانون. احتلوا ببساطة مبنى مهجوراً. «وضع اليد» شيء تفهمه الدولة، يقول أمين، الصديق الفرنسي من أصل تونسي وهو يقدمنا إلى أصحابه الفرنسيين، الذين كانوا قد ارتجلوا مسرحاً في إحدى قاعات المبنى الكبير نسبياً. السيناريو هو التالي: تختار مكاناً مهجوراً منذ زمن، تحتله وتلازمه ليل نهار. من الأفضل أن تكونوا كثيرين. البلدية ستحاول إخراجكم، تجري مفاوضات يمارس خلالها كل طرف مهاراته بمعرفة القانون ومخارجه، وعادةً ما ينتهي الأمر بتسوية أن تحافظوا على المكان إلى أن «يظهر له صاحب».
فرنسا القديمة، قيم الستينات الجميلة، تقطن الدوائر النائية عن السيّاح. المقهى الذي كانت تعزف فيه إحدى زبوناته على البيانو بروعة، بملابس أقرب إلى المتشردين، هو استثمار تعاوني بين جمعيات عدة. هنا، في «لابيلفيلواز» الأشبه بهنغار، مليء بالزبائن. الشباب خاصة. البيرة ثمنها 2 يورو، وطبق الطعام بخمسة.
على البار القريب الذي يديره صديق جزائري، يقف أصدقاء يسخرون من مسلسل «الإرهابي كارلوس»، الذي رغم اعتراض المسمّى على اسمه، عرض في «كان». يتحدثون عن خيبتهم لعدم تضمين إيران اسم جورج إبراهيم عبد الله في ما سمّوه «صفقة تبادل الرهائن بين إيران وفرنسا»، والتي كانت قد بدأت تظهر للعلن. الجاسوسة الفرنسية كلوتيلد رايس في مقابل الإيراني علي وكيلي راد. يلتفت إليك الدبلوماسي الديغولي العتيق، ويسألك: «كيف ترون (دومينيك دو) فيلبان في لبنان؟» رئيس الوزراء السابق؟ تسأل مندهشاً. فيجيبك بابتسامة من يدلي بمعلومة لصحافي: «رئيس فرنسا المقبل الذي حاول ساركوزي قتله سياسياً».


«القدس عاصمة مصادرة»

مفاجئة كانت الندوة التي دعت إليها بلدية الدائرة 14 عن «القدس عاصمة مصادرة». كانت القاعة التي قدمتها البلدية، وهذا تفصيل مهمّ جداً، ممتلئة: الياس صنبر وميشال فارشافسكي، إضافةً إلى العمدة الذي ألقى كلمة عُدّت جريئة نسبة إلى تدوير الزوايا الفرنسي الرسمي مع إسرائيل. شيء ما يتغيّر في المزاج العام. فلسطين تتقدم بتراجع صورة إسرائيل. بديهة. إلى جانب العمدة رئيس جمعية «فرنسا فلسطين» وسيدة أرمينية قدمت مداخلة عن مشكلة الأوقاف في المدينة. الندوة كانت رائعة. ميشيل فارشافسكي دعا الفرنسيين الحاضرين إلى أن يوجّهوا «لنا (الإسرائيليّين) صفعة إن كنتم تحبوننا». أما صنبر، فقد تحدث عن إشكالية «القدس المقدسة» التي تستقطب النقاش العام في العالم تحت عنوان حرية العبادة، وعن القدس العادية، قدس الناس، التي تعاني تفرّد القدس المقدسة بالضوء. تفصيل ليس بسيطاً يعكّر غبطتك بمستوى المنتدين: 400 شخص كانوا في القاعة الممتلئة، لكن معظمهم لرؤوس اشتعلت بالأبيض. «من سيحمل شعلة فلسطين غداً؟» تتساءل المناضلة الفرنسية. فتغضب شقيقة مسؤول فلسطيني!