strong>«القرية الكونيّة» تقطّعها الأسلاكيُقال إنه عندما تسقط الدبلوماسية تعلو الجدران. قد يكون الأمر صحيحاً في بعض الحالات النادرة في العالم، لكن الخريطة الدولية اليوم ليست سوى عبارة عن جدران اسمنتية وأسلاك مكهربة وألغام تفصل الشعوب عن جيرانها وتنزعها من أراضيها... بين تيخوانا (المكسيك) ومليلة (الجيب الإسباني في المغرب) وكشمير والضفة الغربية المحتلة قاسم مشترك: سياج يفصل ويحاصر ويقتل

صباح أيوب
أريدَ للقرن الماضي أن ينتهي بألوان قوس القزح، بصورة مشرقة ونظريات في الانفتاح و«شعوب موحّدة في عالم واحد» وشبكة الكترونية تصل الناس بعضهم ببعض حول العالم بكبسة زرّ، واقتصاد مفتوح وشاشات لا تتعب. أسقط مبشّرو العولمة الحدود الجغرافية وتراجعت بنظرهم «الدولة» باعتبارها الوحدة الحصرية للسلطة والقوة. أدخلت العلاقات الدولية مفاهيم جديدة حول حدود وهمية ترسمها المنظمات غير الحكومية والحركات العابرة للقارات وبعض الشعوب التي تتواصل مع بعضها عبر وسائل اتصال تكسر كل قيد وتجتاز كل عثرة قد تقف في وجه الانضمام الى «القرية الكونية».
وفي السنوات العشر الأخيرة تحوّلت صورة سقوط جدار برلين الى الصورة الاعلانية الأفضل لتسويق «الهجمة الديموقراطية التي ستجتاح دول العالم وموجة الانفتاح التي ستطغى على العلاقات الدولية» (تلتها في ما بعد صور افتتاح فروع «ماكدونالدز» في دول أوروبا الشرقية ووصول الهواتف المحمولة الى الدول العربية).
«سقط جدار برلين، تحررت الكرة الأرضية»، هذا ما أُريد لأجيال القرن الماضي أن يحفظوه في ذاكرتهم ويشاهدوه على خرائطهم الملوّنة بألوان زاهية. تلك الخرائط التي أخفت، ولا تزال، الحقيقة المناقضة تماماً لما جرى تسويقه على مدى قرن. خريطة عالم اليوم هي عبارة عن حدود ترسمها عشرات الجدران التي تعلو بين الدول لتفصل الأرض عن الشعب والشعوب عن ثرواتها، أما الصورة الواقعية فهي لجثث عالقة بين أسلاك كهربائية وحائط اسمنتي.
جدران شاهقة بنيت أو لا تزال قيد التشييد، توزّعت على مختلف القارات تحت شعار حماية السيادة الوطنية والحدود الدولية. معظم الدول التي تنادي بالانفتاح وإلغاء الحدود نظرياً هي التي تعمل فعلياً على عزل شعوبها ومواردها وأرضها عن «الآخرين»، أو تتحكم بجغرافية وطريقة عيش شعوب أخرى.
وإذا نجح القرن الماضي بإطلاق ما يسمى «سياسة الجدران» أو «دبلوماسية الجدران» بصمت ومواربة، فماذا عن القرن الحالي الذي يبدأ بأربعة عشر جداراً خلال السنوات العشر الأولى منه فقط حفرت لها الخنادق علناً وبدأ صبّها وتجهيزها؟
«سقط جدار برلين، تحررت الكرة الأرضية»، هذا ما أُريد لأجيال القرن الماضي أن يحفظوه في ذاكرتهم
في البدء أنشئت الجدران للحماية من «البرابرة»، ثم لحماية الحدود المكتسبة بعد الحروب والغزوات ثم لمنع الهجرة. اليوم ومع عودة الخطاب عن «البرابرة» و«الإرهابيين» و«المهاجرين غير الشرعيين» وارتفاع النبرة العنصرية، بنيت جدران جديدة عازلة قاتلة. الدول الغنية تسوّر حدودها مع الشعوب الفقيرة خشية من «تسلل» المحتاجين للعمل فيها، الدول الآمنة تبني الجدران الكهربائية لتمنع «الإرهابيين» من تعكير أمنها، الدول الغازية تقسّم الأراضي التي احتلتها وفق حساباتها السياسية والاقتصادية. دخلت سياسة الجدران أخيراً في استراتيجيات ما بعد الحروب والمخططات السياسية، فلم تعد عبارة عن أسوار «تحمي» أصحابها لأنها بحاجة الى حماية بدورها، ولأن التجارب أثبتت فشلها بضبط التحركات الفردية والجماعية عبر الحدود. لم يعد بالإمكان تبرير بناء الجدران العازلة إذاً بـ«حماية الأمن القومي أو الوطني»، فقد تأكّد عبر التاريخ أنها تنشأ فقط لعزل الدولة عن جارها غير المرغوب فيه. جدران اليوم، تستخدم كجزء من سياسة عامة يقرر فيها القوي محاصرة الضعيف وخنقه وشلّه، وإحكام السيطرة على ثرواته وموارده.
عشرات الجدران أنشئت على الحدود بين الكوريتين الشمالية والجنوبية، وفي قبرص، وفي إيرلندا الشمالية، والصحراء الغربية، والهند وكشمير، وبوتسوانا وزيمبابوي وغيرها خلال القرن الماضي... أضيفت اليها جدران عازلة داخل فلسطين المحتلة، وبين مصر وغزة، وفي العراق المحتلّ، وبين الولايات المتحدة الأميركية والمكسيك، وبين الصين وكوريا الشمالية، وإيران وباكستان، وعلى طول الحدود الهندية مع بورما وبنغلادش، وهذه المجموعة لا تزال قيد الانشاء.
جدران وأسيجة وخنادق، بعضها مزوّد بأجهزة استشعار لرصد الحركة وكاميرات رصد حرارية وأنظمة تعمل بالأشعة السينية ومعدات للرؤية الليلية وأسلاك كهربائية إلى جانب طائرات الهليكوبتر وطائرات استطلاع من دون طيار ومناطيد مراقبة، وعدد كبير من حرّاس الحدود المزوّدين بأحدث الأسلحة الفردية وأكثرها دقّة.
«حمايةً للسلم الأهلي»، «منعاً للهجرة غير الشرعية»، «درءاً للإرهاب»، «للحدّ من تهريب المخدرات»، «للفصل بين مناطق نزاع»، هذه هي الأسباب المعلنة التي وضعتها الدول الكبرى لبناء جدرانها العازلة مع جيرانها، علماً بأن التجربة الواقعية والدراسات الميدانية تنفي تحقيق أي من تلك الأهداف.
ومن أبرز الجدران التي بنيت في السنوات العشر الماضية أو التي يستكمل بناؤها حالياً:

السياج الحدودي بين الولايات المتحدة الأميركية والمكسيك

بدأ بناؤه منذ عام 1994 وهو قيد الإنشاء. طوله 1200 كيلومتر (ثلث المساحة الحدودية بين البلدين) وارتفاعه 3 أمتار. وقد جهّز بأسلاك مكهربة، ورادار، وكاميرات مراقبة، وأجهزة استشعار أرضية، وطائرة من دون طيّار، وأحدث أجهزة المراقبة الاميركية. أما أهدافه فهي الحدّ من الهجرة غير الشرعية للمكسيكيين وللأميركيين اللاتينيين الى الأراضي الأميركية.
ملاحظات: قتل نحو خمسة آلاف مهاجر في السنوات العشر الأخيرة في أثناء عبورهم من المكسيك الى الأراضي الأميركية. وسيقسم السياج حين يستكمل بناؤه أراضي شاسعة تابعة لثلاث قبائل من الهنود الأميركيين. وقد صدر قرار في عهد الرئيس السابق جورج والكر بوش لتفعيل العمل على السياج وتزويده بأحدث تقنيات الرقابة.

السياج الشائك على حدود سبتة ومليلة

وقد شيّد السياجان عام 1995 ويتراوح طولهما بين 12 كيلومتراً (مليلة) و8 كيلومترات (سبتة) وارتفاعهما 6 أمتار.
وقد جهّز السياجان بشبكة أسلاك فولاذية، وأسلاك شائكة، ورادار، وكاميرات مراقبة يصل مداها حتى كيلومترين داخل الأراضي المغربية.
وتولّى الحرس المدني الإسباني والجيش المغربي حماية السياجين، بذريعة «منع الهجرة غير الشرعية للمغربيين وسكان الصحراء الغربية الى الأراضي الاسبانية».
ملاحظات: عام 2005، جهّزت السلطات الإسبانية السياج بأحدث تقنيات الرقابة والسلاح. وانخفض عدد العابرين للحدود البرية، لكن الهجرة استمرت عبر البحر وسجّلت حوادث اعتقالات وقتل على تلك الحدود.

السياج الشائك بين الهند وباكستان

بني بين عامي 2002 و2003 في إقليم كشمير، ويبلغ طوله 550 كيلومتراً وارتفاعه 3.5 أمتار. وتم تجهيزه بأسلاك مكهربة، وشبكة سلكية، وألغام، وأجهزة استشعار للحركة، وكاميرات مراقبة.
ويتولى 450 ألف جندي هندي و30 ألف جندي باكستاني حراسة السياج، الذي تقول السلطات إنه مخصص لصدّ الارهابيين ومنعهم من التنقل بين البلدين، إضافة الى حالة النزاع بين الهند وباكستان المستمرة على إقليم كشمير.
ملاحظات: السياج الشائك يفصل بين قوتين تمتلكان أسلحة نووية. وقد استمر تسلل «المجاهدين» على الحدود الهندية الباكستانية رغم السياج.

الجدار الحدودي بين إيران وباكستان

بدأت إيران ببنائه عام 2007 ويبلغ طوله 700 كيلومتر وارتفاعه 3 أمتار. وجهّز باسمنت مدعم، وأسلاك شائكة مكهربة، وكاميرات مراقبة.
ويتناوب الجيشان الباكستاني والايراني على حراسته لمنع التجارة غير الشرعية وتهريب السلع والمخدرات والسلاح بين البلدين.
ملاحظة: نسبة التجارة بين البلدين تسجل ارتفاعاً ملحوظاً، إذ بلغت أخيراً نحو 200 مليون دولار. تبقي إيران حالياً بوابة «التساهل» في الجدار وذلك للسماح لمواطنيها بالتنقل وعبور الحدود بنسبة مضبوطة.

جدار الفصل العنصري الاسرائيلي

قتل نحو 5000 مهاجر في السنوات العشر الأخيرة في أثناء عبورهم من المكسيك الى أميركا
بدأ تشييده منذ حزيران 2002 في الضفة الغربية المحتلة عام 1967. ويبلغ طوله 790 كيلومتراً وارتفاعه 9 أمتار، مجهّز بأسلاك مكهربة، وشبكة سلكية، وكاميرات مراقبة كل 50 متراً، وبنظام يسمّى «الحاجز الذكي» الذي يطلق صفارات الإنذار عند أقلّ ملامسة له.
ويقوم جيش الاحتلال الإسرائيلي بحراسة الجدار لمنع وصول المقاومين الفلسطينيين الى الداخل الاسرائيلي، والسيطرة على موارد المياه والمواقع الاستراتيجية في الضفة، وعزل الفلسطينيين وسلبهم أراضيهم وضمّها الى «دولة إسرائيل».
ملاحظات: يغتصب الجدار 9.5 في المئة من الأراضي الفلسطينية التي يملكها فلسطينيون، كما يقتطع بساتين وأراضي زراعية فلسطينية ويفصل الأحياء داخل البلدة الواحدة في بعض أماكن مروره. يعطل الجدار حركة التجارة والتنقل بين بلدات الضفة ويعوق الوصول الى كل أرجائها بالنسبة إلى سكانها من الفلسطينيين. وتسبب الجدار لغاية الآن بهدم 178 محلاً تجارياً لمواطنين فلسطينيين، وعشرة منازل سكنية، كما ضمّ الجدار ثلث آبار المياه في بلدة قلقيلية الى الجهة الإسرائيلية.
وتعود ملكية شركة الاسمنت التي تمّ بناء الجدار منها لابن شقيق رئيس الوزراء الفلسطيني السابق أحمد قريع الذي نفى معلومات تفيد بأنه المالك الرسمي والحقيقي للشركة.

الجدار الفولاذي المصري العازل

بدأ العمل عليه أواخر عام 2009 ولا يزال قيد الانشاء. يبلغ طوله 10 كيلومترات وعمقه: 20 إلى 30 متراً تحت الأرض، في منطقة الأنفاق التي تصل مصر بغزة.
ويتألف الجدار من صفائح فولاذية، طول الواحدة 18 متراً وسمكها 50 سنتمتراً، مقاومة للديناميت ومزودة بمجسات ضد الاختراق، وبماسورات بطول 10 كيلومترات لضخّ المياه بغية إحداث انشقاقات وانهيارات في الأنفاق، وأبراج مراقبة مجهزة بكاميرات وقمرات مضادة للرصاص. أما الأهداف (المعلنة من قبل السلطات المصرية) فهي حماية الأراضي المصرية وسيادتها وأمنها الوطني من عمليات التهريب التي أسقطت عدداً من جنود حرس الحدود المصري بين جريح وقتيل في السنوات العشر الأخيرة.

الجدار الحدودي بين السعودية واليمن

حاولت المملكة العربية السعودية منذ عام 2003 بناء جدار على حدودها مع اليمن، لكنها اوقفت العمل عليه بعد سنة. الا أنها بدأت التحضير، منذ عام 2009، لبناء سياج من الاسلاك الشائكة على طول الحدود البالغة 1600 كيلومتر مع اليمن. والأهداف المعلنة حماية أمن المملكة الوطني.

* المعلومات الدقيقة عن الجدران مبنيّة على خلاصة معرض نظّمه «المتحف الدولي للصليب والهلال الأحمر» (2008-2009) انطلاقاً من كتاب «جدران تفصل الشعوب» لألكسندرا نوفوسيلوف وفرانك نيس.


لوحات

شكّل الجدار الفاصل الإسرائيلي في الضفة الغربية «مشغلاً» لفنّاني الغرافيتي من مختلف أنحاء العالم. ولعلّ أشهرهم الفنان البريطاني العالمي المجهول الهوية، الذي يدعى «بانكسي»، والذي توجّه الى الضفة الغربية المحتلة عام 2005 ورسم تسع لوحات على الجدار كلها رافضة لوجوده. بانكسي يقول في مقابلة لصحيفة «غارديان» إن «الجدار هو مخالف للقانون الدولي، وهو يحوّل فلسطين الى أكبر سجن في العالم». ويشرح بانكسي أن ارتفاع الجدار «يفوق جدار برلين بثلاثة أضعاف ويمتد بطول يساوي المسافة بين لندن وزيوريخ».
ويروي أنه تعرّص لقصف عدة مرات من قبل الجنود الاسرائيليين من حراس الجدار، ويتذكّر أنه التقى بمواطن فلسطيني قال له إنّ «عمله يجعل الجدار يبدو جميلاً... لكننا لا نريده أن يكون جميلاً. نحن نكره هذا الجدار. لذا ارجع من حيث أتيت».
يذكر أن إحدى الفنانات الاسرائيليات صممت نماذج للجدار الفاصل صنعته من كراسيّ بحرية رمادية طويلة وضعته على شاطئ تل أبيب، ما أحدث صدمة (عابرة) لدى روّاد الشاطئ في صيف 2009.