بات ممكناً في «تركيا الحديثة» الدعوة إلى محاكمة قائد الجيش وانتقاد هذه المؤسسة التي تُشغِّل 65 ألف عنصر خدماً لـ«طبقة الضباط». إلكر باسبوغ يودّع عهده، وغياب البديل يمدّد بقاءه
أرنست خوري
إنه عصرُ فتح جميع الملفّات التي كانت محرَّمة في تركيا. عصرٌ ينال منه الجيش الحصّة الأبرز، بما أنّه بقي الأصل في كلّ ما يُسمَح ويُمنَع الحديث عنه. واليوم، فُتحَت العلبة، وأصبحت هذه المؤسسة وقضاياها عرضة لكل أنواع الانتقادات. وفيما لم يُقفَل بعد سجال الخدمة الإلزامية وحرفيّة الجيش، عاد ملف إقالة قائده أو استقالته، إلكر باسبوغ إلى الضوء، من أبواب عدة: قانونية، بما أنّ بقاء الرجل على رأس الجيش بات مخالفاً للقوانين، منذ 30 نيسان الماضي، أي منذ بلغ سنّ الـ 67. وسياسية، بما أنّ «الغرابة» في تركيا وصلت إلى حدّ رفع «حزب الجيش»، أي «الشعب الجمهوري»، ورئيسه دنيز بايكال، شعاراً يطالب فيه رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان بإقالة باسبوغ. وأخيراً مسلكية، إذ إنّ الخسائر في الأرواح تضرب الجيش وعناصره بقوة في هذه الأيام، بحيث لم يعد يمرّ يوم واحد إلا يسقط للجيش قتيل أو 2 أو 5 في عمليات حزب «العمال الكردستاني».
إذاً، وفق المادة الـ49 من القانون العسكري، كان يجدر بباسبوغ تقديم استقالته أوتوماتيكياً في الثلاثين من الشهر الماضي، بما أنه من مواليد 29 نيسان 1943، وهو ما كشفت عنه صحيفة «بوغون». لكنه لم يفعل. سلوك مستغرَب، وأكثر منه إثارة للاستغراب عدم تحريك أردوغان وحكومته للملف، ببساطة لأنّ عملية «طبخ» اسم خليفته لم تنتهِ بعد. ففي السابق، كان اسم الرئيس المقبل لهيئة الأركان يُحَدَّد قبل وقت طويل من الموعد، وفق أجندة الجيش وحده، وحسب صراع أجنحته. واليوم، بعد حملة الاعتقالات التي تطال ضبّاطاً رفيعي المستوى، على خلفية تورّطهم في مخطّطات «إرغينيكون»، يعاني الجيش مشكلة تحديد خليفة لباسبوغ. خلف يريده أردوغان رمزاً لمرحلة جديدة في تركيا، عنوانها استيعاب الجيش لحقيقة أنّ الزمن تغيّر، وأنّ على الجيش الاستعداد للتأقلم مع الزمن الجديد، بحيث يبقى ضباطه وعناصره في ثكنهم، بعيداً عمّا أدّوه منذ عقود في السياسة والمجتمع والاقتصاد.
ولو استقال باسبوغ، لتسلم نائبه حسن إغسيز مهماته، وهو ما كان هدف بايكال من حملته الضاغطة لإقالة باسبوغ. لكن يبدو أنّ أردوغان لا يريد بتاتاً أن يرى إغسيز، المتشدد والراديكالي في كماليته، والقريب من التقاعد، قائداً للجيش، لذلك لم يستجب لدعوات إقالة الرئيس الحالي لهيئة الأركان، وربما كان يفضّل أن يشغل هذا المنصب الجنرال عشق كوشانر، المرجَّحة تسميته في الاجتماع السنوي لقيادات الجيش التركي، في آب المقبل.

منذ 30 نيسان أصبح استمرار باسبوغ في منصبه غير قانوني، والجنرال عشق كوشانر مرشحاً لخلافته
وأمام هذا السجال، الذي يبدو باسبوغ كمن لا كلمة فعلية له فيه، تعرّض لحملة غير مسبوقة من صحف وأحزاب ومثقفين وجمعيات مجتمع مدني، على خلفية الخسائر الهائلة التي يتكبّدها جنوده في حربهم المتواصلة مع المقاتلين الأكراد، حتى وصل الأمر بالبعض إلى الدعوة إلى محاكمته، وهو ما قد يصبح جائزاً قريباً بعدما مرّر البرلمان التعديل الدستوري الذي يجيز ذلك، والمنتظر أن يقرّه الرئيس عبد الله غول وينشره في الجريدة الرسمية، ليُعرَض بعدها على استفتاء شعبي في غضون تموز المقبل.
وكما يحدث في كل مرة، يتعرض فيها الجيش وقائده لحملات، يُعتمَد خيار الهروب إلى الأمام. هرب باسبوغ عبر وصف جميع الصحافيين الذين ينتقدون أداء الجيش بـ«الخونة والعملاء»، معيداً استخدام مصطلح «mutareke»، أي المتعاونين مع العدو اليوناني خلال حرب الاستقلال الكبرى بين 1919 و1922.
كذلك هرب الجيش إلى داخل الأراضي العراقية، حيث لا يزال مقاتلو «العمال الكردستاني» يتحصّنون في مثلث الحدود التركية ـــــ العراقية ـــــ الإيرانية. هناك، وفقط هناك، لا يمكن أحداً أن يحاسب الجيش على أدائه ولا على تقصيره ولا على عدم احترافيته، بما أنّ المعركة عبارة عن اجتياح جوي للأجواء العراقية، لا وجود فيها لالتحام عسكري.