يرى خبراء أميركيّون في شؤون التنظيمات المسلحة أنّ الهجمات الأخيرة التي استهدفت مصارف ومحالّ مجوهرات في العراق، وأعلن «القاعدة» مسؤوليته عنها، دليل على توجّه لدى التنظيم نحو الاعتماد على نفسه لإيجاد تمويل لعملياته
نيويورك ــ نزار عبود
قرأ خبراء أميركيون مختصّون في شؤون التنظيمات المسلحة في عمليات السطو الأخيرة، التي وقعت في بغداد، أنّها مؤشر إلى تدنٍّ شديد في الدعم المالي المخصّص لـ«دولة العراق الإسلامية» أو تنظيم «القاعدة ـــــ العراق» بعد وفرة كبيرة كان ينعم بها قبل أعوام. وفسروا الهجمات التي طاولت مصرفين كبيرين ومحالّ بيع مجوهرات بأنها دليل على انحسار التبرعات المليونية التي كانت تأتي من بلدان الخليج النفطية وغيرها. رخاء مالي مكّن قيادة القاعدة في العراق من الإغداق على تنظيمات شقيقة في باكستان وأفغانستان. ورأوا أنّ التنظيم بدأ يحذو حذو تنظيمات أخرى في المغرب العربي وأوروبا وأفريقيا بالاعتماد على الذات في توفير موارده.
ولم يجد محلّلو موقع «ستارفور» الأميركي غرابةً في ذلك، لأنّ العديد من التنظيمات الثورية سلكت الطريق نفسه بعدما فقدت معيلها. معظم نفقات تلك التنظيمات تتمركز على البنى الاجتماعية التحتية، إذ يتعيّن على التنظيمات رعاية محتضنيها من أسر وأفراد وحمايتهم، وتوفير القوت الأساسي لهم والمأوى الآمن والمواصلات والأعتدة للمسلحين وأفراد أسرهم ضمن حدود معيّنة.
وفي هذا لا تختلف التنظيمات اليمينية عن الأخرى الثورية. فالاستخبارات الأميركية رعت في الماضي، ولا تزال، الكثير من التنظيمات المناوئة للأنظمة المناهظة لسياستها، سواء في أميركا اللاتينية أو في الشرق الأوسط وشرق آسيا، ولا تدعم الحكومات والأنظمة وحسب. وكانت طالبان في أفغانستان، وكذلك «القاعدة»، على رأس التنظيمات التي حظيت برعاية واشنطن من التدريب والتمويل والتجهيز على مدى عقود.
وبحسب الدراسة، التي نشرها سكوت ستيوارت على الموقع الأميركي «ستارفور»، فإنّ تمويل حروب الوكالة في الصراعات ذات الطابع الجيوسياسي تبقى أدنى كلفة من الحروب المباشرة بكثير. كما تستطيع الدول الراعية للتنظيمات المسلحة إنكار علاقتها بها، فلا تتحمّل تبعات نشاطاتها على الصعيدين الداخلي والدولي أو المعنوي عندما ترتكب جرائم كبيرة بحق المدنيين، كما حدث في السنوات الأخيرة في بلوشستان، إحدى المقاطعات الإيرانية. فالولايات المتحدة وبريطانيا دعمتا تنظيمات، مثل تنظيم «جند الله»، الذي أُعدم زعيمه عبد الملك ريغي في طهران الأسبوع الماضي. وعندما وقع في الأسر نأتا بنفسيها عنه تماماً.
وأحياناً لا تتكبّد الولايات المتحدة عناء إخفاء صلتها بالتنظيمات المناوئة مثل القاعدة وطالبان، عندما زوّدتهما بأسلحة عالية النوعية مضادة للطائرات أدت إلى سيطرة التنظيمين على البلاد منذ أواخر الثمانينيات حتى نهاية عام 2001. كان ذلك مكشوفاً في الحرب الباردة، ولم ينته بنهايتها.
وبالمثل زوّد الاتحاد السوفياتي واستخبارات ألمانيا الشرقية العديد من التنظيمات الثورية المسلحة بالكثير من الأسلحة المتطورة والتدريب الاستخباريّ والميداني في مناطق مختلفة، من ضمنها لبنان واليمن وليبيا، ما أكسب تلك التنظيمات مهارة خاصة، جرى توظيفها في عمليات نوعية مثل تفجير مقر السفارة الأميركية في بيروت، واستهداف كبار رجال الاستخبارات في منتصف الثمانينيات.
غير أنّ التنظيمات التي لم تجد من يرعاها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، اتجهت إلى العمل الإجرامي المسلح، أو إلى تجارة الممنوعات لتوفير بقائها، فيما بقيت التنظيمات، التي خسرت رعاية الولايات المتحدة ورعاية السلطات السعودية، تتمتّع بالدعم السري من المؤيدين حتى أواخر عام 2007. بعدها حدث تحوّل تحت وقع الضربات المؤلمة التي سبّبتها للقوات الأميركية في العراق وأفغانستان وباتت تهدّد الاستقرار في باكستان النووية، ما حرّك أجهزة الإنذار وعجّل بالتحرك ضدها بعدما كانوا يرون في حركتها خدمة لاستراتيجية أوسع، تتمثّل في محاربة إيران. إذ إنّ كثيراً من أجهزة الاستخبارات والمتموّلين الخليجيين دعموا تنظيمات كالقاعدة ضمن إطار سياسة تسعير العداء المذهبي بين السنّة والشيعة في المنطقة. وعندما اكتشفت الاستخبارات الأميركية مدى تأثير هذه التعبئة المذهبية السلبي على سياستها وقواتها في المنطقة، غيّرت من تكتيكها.
وهكذا، اضطرت الاستخبارات السعودية والأميركية إلى اعتراض تمويل «القاعدة» بواسطة شركات التحويلات للجمعيات الخيرية والحدّ منه إلى أقصى الحدود، ما ترك أثراً سلبياً على أوضاع «القاعدة» في العراق. وفي المقابل، خُصّصت مبالغ للصحوات العراقية لمحاربة «القاعدة». وضع أربك الساحة السنيّة العراقية كثيراً، وأوجد شرخاً رئيسياً بين التنظيمات المختلفة، أدّى إلى عمليات قتل وقتل مضاد. ما أسهم في تشتّت القوى السنية، التي فقدت الثقة بنقاوة ممثليها من قادة التنظيمات العسكرية.
على أنّ التحليل يرى أنّه كلّما زاد الاعتماد على العمليات الإجرامية «غير الثورية»، ضعفت قدرات التنظيمات على استقطاب كوادر ملتزمة عقائدياً. أمر يهدّد بفقدانها البيئة الاجتماعية الحاضنة، ويعرّيها بما يسهّل استهدافها.