يعيش المواطنون الفرنسيون اليوم ما بين «الغضب والشماتة». وفيما يشمل الغضب الجميع، فإن الشماتة تتوزع على فئات متنوعة وتتنوع أسبابها حسب كل فئة لتعكس الشرخ الذي أصاب المجتمع الفرنسي وتنوعه الذي كان «مفخرة» حتى سنوات
باريس ــ بسّام الطيارة
رغم عدم وجود علاقة مباشرة بين فشل المنتخب الفرنسي والشرخ الذي أصاب المجتمع الفرنسي وتنوعه الذي كان «مفخرة» الحكومات المتعاقبة، إلا أنه لا يمكن المراقبين إلا الربط بين ما أصاب الفريق الوطني والتحول الذي يصيب المجتمع الفرنسي منذ سنوات.
يكفي لذلك النظر إلى مسبحة العتاب والملامات التي وجهت إلى الفريق الرياضي والفريق التقني وإدارة كرة القدم حتى نرى أنها متشابهة ومتقاطعة ونابعة من العيوب التي تلطخ المجتمع والسياسة اليوم. وهو ما دفع عدداً من المراقبين والمعلقين السياسيين والرياضيين إلى المطالبة بالالتفات إلى «ما ينخر المجتمع من مشاكل حياتية أهم بكثير من الخروج من الدور الأول لكأس العالم».
أول «المعالم السلبية» التي تسلط عليها أضواء الملامة هو «العنف». فالعنف كان حاضراً بكل معانيه المادية والمجازية وحتى اللفظية في مسار الفريق الوطني الفرنسي، وكل مقابلة صحافية مع المواطنين برز العنف بكل أشكاله من خلال الأجوبة، أكان ذلك في القنوات التلفزيونية على موجات الإذاعة، أم في الصحف. وبحسب أكثر من معلق، فإن العنف كان حاضراً بالطريقة التي تأهلت بها فرنسا إلى الدور النهائي عبر «الغش بعد استعمال هنري يده أمام المرمى الإيرلندي»، وهو ترك «نوعاً من الضيق» حتى لدى مؤيدي الفريق. إلا أن بعض التعليقات أشارت إلى أن «الغش بات صبغة النجاح اليوم في المجتمع» ولم يتردد البعض في الإشارة إلى الفضائح التي تشهدها المحاكم الفرنسية، ويساق إليها عدد متزايد من رجال السياسة الذين من المفرض أن يكونوا القدوة.
العنف كان موجوداً أيضاً في «الكلمات النابية التي وجهها أنيلكا لمدربه»، وهي صدمت الجمهور والمواطنين، وخصوصاً أنها صدرت عن «أبطال يفترض أنهم مثال أعلى للتصرف الرياضي». إلا أنه على مسار التعليقات وردات الفعل، تبين أن ما قاله أنيلكا لمدربه «ليس شيئاً بالنسبة إلى ما يسمعه المعلمون والمربون في مدارس بعض المناطق، وخصوصاً الضواحي».
كذلك فإن أحد المعلقين ذكّر «بردات فعل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي العنيفة»، مثلما عندما صاح بأحد صيادي السمك من الذين كانوا يتظاهرون ضد زيارته لمنطقة بريتاني بقوله: «انزل إن كنت رجلاً» أو عندما رفض أحد المواطنين مد يده للسلام عليه فبادره بـ«اذهب من هنا يا أبله. مسكين».
وحتى آخر حركة لريمون دومينيك قبل خروجه من الملعب بنتيجة خاسرة عندما «رفض اليد الممدودة لمدرب الفريق الأفريقي»، فقد رأى فيها الجميع نوعاً من العنف في «نمط التعامل والاحترام» مهما كانت الحجج التي ساقها لتبرير رفضه هذا.
عندما سأل أحد المعلقين مؤلف كتاب «تمجيد الحركات السيئة»، أوليفيه بوريول، التعليق على هذا العنف، قال: «إننا نطلب من كبار اللاعبين أن يكونوا مثالاً يحتذى به، إلا أنهم لا يستطيعون ذلك». وأوضح أنهم يأتون عادة من الضواحي، يتركون المدرسة وهم في الثانية عشرة من العمر، وخلال سنوات عديدة لا يمارسون أي نشاط غير كرة القدم، ولا يفقهون شيئاً غير هذه الرياضة. إنهم غير قادرين على ذلك. ويضيف: «عندما يصبحون مشاهير، نطلب منهم أن يتكلموا مثل الكتّاب، وأن يتحدثوا مثل المنظّرين، وأن يكونوا مثالاً اجتماعياً». وبالطبع يطلب الجميع من هؤلاء الأبطال هذا لأنهم مشاهير وأغنياء، إلا أن هذه الثروة تهبط عليهم بسرعة دون أن يتمكن معظمهم من «تقبّل هذا الوضع الجديد والتأقلم معه»، وهو ما يخضعهم لضغوط صحافة الفضائح ويجعلهم ينطوون على أنفسهم ويتصرفون كأن كل شيء مسموح لهم ما داموا يدرّون الملايين على المول التجاري الذي «يلعب على صورتهم كأبطال».
وهنا أيضاً يوجد «عنف المال والثروات السهلة» في عصر ينوء فيه المواطنون تحت ثقل الضيق الاقتصادي، فيما «أبطالهم يعيشون في رحى الملايين» على نحو تلاحق الصحف أفعالهم، شنيعة كانت أو صالحة لتلتقطها وتعيد «تدويرها» في مخيلة المعجبين من الأجيال الصاعدة، وخصوصاً في الطبقات الشعبية التي تمثّل لعبة كرة القدم «أرخص تسلية لها». وتعبد طريق مخيلة صغارها الذين ينظرون إلى «أولاد الأحياء الآتين من الضواحي مثلهم» وقد باتوا أثرياء يتنقلون بين الفنادق الفاخرة في سيارات فارهة، أي منها يوازي ميزانية بلدية الضاحية التي يسكنونها أو القرية الأفريقية من حيث أتى اللاعب.
إن العنف الاجتماعي موجود بقوة في ما أصاب فرنسا في الأسبوعين الماضيين، إلا أنه عنف يأتي من بعيد وليس وليد مباراة كأس العالم التي من سوء حظ القارة السوداء تحصل لأول مرة في دولة أفريقية.
إنه عنف تجذر في الضواحي وفي المجتمع بغياب الدولة (البعض يقول بسبب استقالة الدولة) وعدم قيامها بدورها وترك الضواحي من دون ميزانيات للمدارس وللأنشطة الاجتماعية ما قضى على «المصعد الاجتماعي» الذي عمل على ضبط توافد المهاجرين منذ مطلع القرن الماضي واستيعابهم، ما ترك «شباب الضواحي» أمام حلين لا ثالث لهما: إما النجاح عبر الرياضة (كرة قدم وملاكمة وفنون القتال)، أو الغوص في عالم الجنح والمخدرات.
أما التسلية فتكون بحرق السيارات في أيام العطلة وإشعال الدواليب للاحتجاج على فقر مدقع قابع في حياة أهلهم اليومية. إن الملامة التي يوجهها الجسم السياسي إلى الفريق الوطني في كل التعليقات هي أنه خدش صورة الرياضة، وبالتالي لم تعد كرة القدم «السيرك الروماني الذي يلهي العامة ويبعدهم عن التفكير بيومهم الصعب». واليوم تعيش فرنسا يوماً مثقلاً لأسباب أخرى، لكنها تتقاطع تقاطعاً غير مباشر مع لعنة ما حصل للفريق الوطني، إذ إنه يوم إضراب شامل للاحتجاج على تراجع الخدمات الاجتماعية ومحاولات الحكومة في زيادة سنوات العمل قبل التقاعد وزيادة رسوم الضمان الاجتماعية ورفع الضرائب لـ«إنقاذ النظام الاجتماعي الفرنسي».
في الوقت نفسه، سيجتمع الرئيس نيكولا ساركوزي مع تيري هنري لـ«فهم ما حصل في المونديال»، بحسب قول «الفيغارو». ماذا سيقول الرئيس لللاعب الذي سيخبره أنه سيوقع مع نادٍ أميركي عقداً ذهبياً ليتقاعد في نيويورك، بينما أصوات المضربين ترتجّ في أرجاء الإليزيه؟