باريس ــ بسّام الطيارة
في الثامن عشر من حزيران عام ١٩٤٠، أطلق الجنرال شارل ديغول على موجات أثير إذاعة «بي بي سي» نداءه الشهير من لندن، التي توجه إليها عندما أدرك أنّ السلطات الفرنسية قررت الاستسلام للعدو النازي، فدعا إلى «المقاومة». غطت مباريات كأس العالم لكرة القدم وخسارة فرنسا على الاحتفالات بنداء ديغول الشهير. كذلك فإنّ «التمزق داخل الحركة الديغولية» بين مؤيدين للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وخصمه السياسي الشيراكي دومينيك دوفيلبان، إضافة إلى «المتشدد الديغولي» نيكولا دوبون دانيان، رمى إلى المرتبة الثانية الاحتفال بالذكرى السبعين لإطلاق النداء. وقد بدأ الجميع قبل أسابيع التموضع للاستفادة من هذا النداء الذي لا يزال يحرك العواطف الفرنسية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وإن كان لأسباب جد متفاوتة ومتناقضة.
فقبل أسابيع، أعلن رئيس الحكومة السابق دومينيك دوفيلبان موعداً في ١٩ حزيران لإطلاق ما سماه «تياراً ديغولياً» جديداً لمنافسة خصمه ساركوزي. وبالطبع لم يغب عن ملاحظة الجميع اختيار هذا التاريخ. وحال إعلان الموعد، بدأ ساركوزي تحركه لـ«استمالة» النواب الذين يمكن أن يقفوا إلى جانب من يشاركه السباق لوراثة «الشيراكية السياسية» التي ادعت وراثة «الديغولية السياسية». وبالفعل فقد قدم ساركوزي حقيبتين وزاريتين لأقرب المقربين من خصمه؛ عيّن مدير مكتب دوفيلبان السابق برونو لومير وزيراًَ للزراعة، والنائب جورج ترون وزير دولة لشؤون الوظيفة العامة.
وفي السياق، دعا ساركوزي عدداً من داعمي دوفيلبان من ذوي الوزن السياسي إلى الإليزيه في محاولة لثنيهم عن المشاركة في ما يعدّه البعض «عامل خسارة اليمين». حتى الرئيس السابق جاك شيراك لم يسلم من محاولات إغراء ساركوزي؛ فقد شوهد الاثنان يتناولان الغداء في مطعم صيني، ودعي عدد كبير من مصوري الصحف والبابارازي لتصوير لحظة خروج الرئيسين. حتى الاحتفال بالنداء العتيد كرست له الحكومة برنامجاً حافلاً تضمن زيارة لمتحف ديغول في لندن، وظهرت الصور في نشرات الأخبار التي تحدثت عن «انطلاقة دوفيلبان السياسية».
ونجح ساركوزي نوعاً ما، إذ إنّ عدداً من السياسيين غاب عن منصة إطلاق «جمهورية التضامن». وفاجأ دوفيلبان الجميع بأنّه لم يعلن، أمام ما لا يقل عن ٥٠٠٠ شخص، ولادة حزب جديد بل «تيار تضامني يكون فوق الأحزاب» منفتح على كل الأفكار ومستعد لاستقبال «كلّ الخائبين من الأحزاب الأخرى» من اليمين واليسار. وأضاف، بنبرة خطيب، أنّ «كل الذين يشعرون بالإحباط في بلدنا يتعين عليهم أن يقتنعوا بأنّ شيئاً جديداً يولد اليوم في فرنسا، وهو سيكبر مع الأيام»، في إشارة إلى حركته الجديدة التي أوجدت بعض «النوادي السياسية» نواتها والتي يقول مقربون منها إنّها تضم ما يزيد على ١٦ ألف منتسب.
واقترح دوفيلبان على مستمعيه، الذي تشكلوا من «مختلف ألوان الجمهورية»، تقديم «بديل»، في إشارة إلى ساركوزي، رغم أنّه لم ينطق اسمه طوال الساعة والعشرين دقيقة التي دام خلالها خطابه الذي قوطع مرات عديدة بالتصفيق.
وتنقلت «الأخبار» بين الحضور، الذي أبرز صورة عن المجتمع الفرنسي المتنوع، فقد كان بينهم بورجوازيو الدائرة السادسة عشرة الغنية والعديد من سكان الضواحي الفقيرة وممثلو الطبقات المتوسطة، الذين كان معظمهم من المتقاعدين. وحضر بقوة ممثلو المهاجرين وأولادهم، وخصوصاً المغاربة والأفريقيين. وكان الحضور اللبناني قوياً نوعاً ما إذا أخذ في الاعتبار ابتعاد الجالية اللبنانية عن المناسبات السياسية الفرنسية.
إنّ دل هذا على شيء، فهو أنّ حركة دوفيلبان «الجمهورية المتضامنة» جذبت جمهوراً يمثل مروحة واسعة من المجتمع الفرنسي في شرائح متنوعة لها مصالح متناقضة لا يجمعها سوى «النفور من ساركوزي ومن السياسة كما هي متبعة منذ عقدين»، حسب ما صرح أحد المشاركين من منطقة جنوب غرب فرنسا، حضر مع عشرات المزارعين.
ويرى بعض المراقبين أنّ «نداء دوفيلبان» هو إعلان فتح الصراع على الانتخابات الرئاسية المقبلة التي يتنافس عليها رجلان من اليمين، أحدهما ساركوزي لأنّه يطمح إلى التجديد، والثاني دوفيلبان الذي يفعل كلّ ما يمكنه لمنعه من الوصول إلى هدفه. إلا أنّ بريجيت جيراردان، الأمينة العامة للحركة الجديدة، ترى أنّ «نجاح هذا اللقاء بين دوفيلبان والشعب» هو بداية للوصول إلى «التغيير»، رغم أنّ استطلاعات الرأي لا تعطي مرشحها أكثر من ١٠ في المئة من الأصوات حتى الآن، مهما كان سيناريو الترشح في الرئاسيات المقبلة.