نيويورك ـ نزار عبودخاص بالموقع - في أول ربط بين نفوذ المافيات ورجال الحكم وقادة الجيوش، حذّر تقرير جديد صادر عن الأمم المتحدة من الأموال التي تنفق لشراء نواب في البرلمانات وتقرير مصائر شعوب، ومن مخاطر صراع العصابات على استقرار أنظمة وحكومات باتت مهددة بالانهيار في دول تمتد من المكسيك غرباً إلى شرق آسيا. ونبّه إلى أن عدد ضحايا المخدرات في روسيا وحدها يصل إلى 40 ألف شاب سنوياً، فيما طالب التقرير بحلول عالمية لمخاطر لا تعترف بالحدود والثقافات.
لقد دقّ مكتب الجريمة والمخدرات التابع للأمم المتحدة في تقريره السنوي الصادر أمس ناقوس الخطر، قائلاً إن العصابات والمافيات المنظمة لم تعد تكتفي بتجارة المخدرات والتهريب والتزوير واستعباد البشر وتسخيرهم في الرذيلة والعمالة، بل إنها باتت تتحكّم أيضاً في مصائر شعوب عن طريق شراء الأصوات في الانتخابات وتزوير برلمانات وشراء ذمم رجال السياسة وقادة القوات المسلّحة في الكثير من الدول. أمر ينذر بانهيار دول عديدة وإشاعة الفوضى.
ويضيف التقرير أن الجريمة المنظمة تعولمت، وتحولت إلى واحدة من أهم القوى الاقتصادية والعسكرية في العالم.
من جهته، عرض المدير التنفيذي لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، أنطونيو ماريا كوستا، التقرير الجديد عن عولمة الجريمة أمام مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، أمس. وقال في تقديمه إن عالمها يتمحور حول تجارة المخدرات الثقيلة مثل الكوكايين والهيرويين، والأسلحة النارية والمنتجات المزيفة والسرقة والسطو والدعارة وجريمة الإنترنت. هذه الجرائم لم تعد محصورة ضمن حيّز جغرافي معيّن، بل إنها عابرة للقارات، «لذا تحتاج إلى مقارعة عالمية»، حسبما ذكرت خلاصة التقرير.
وحسب تقويم ماريا كوستا، فإن الجريمة المنظّمة عبر الدول «باتت تمثّل تهديداً للسلم والتنمية وحتى لسيادة الدول».
كذلك أصبحت الجريمة المنظّمة المتنامية تستهدف أساساً دول مجموعة الثماني وأخرى مثل البرازيل وروسيا والهند والصين، فضلاً عن قوى إقليمية أخرى، حسب التقرير.
أمّا سبب استهداف الجريمة لهذه الدول، «فيعود إلى القدرة الشرائية في هذه الكتل السكانية الكبرى ونموّ الطلب فيها على المواد السرية مع نموّها الاقتصادي الاستهلاكي».
ويخلص كوستا إلى أن إخفاق الدول الغنية في مساعدة الدول الفقيرة على صيانة سيادتها واستقلالها من الزاوية الأمنية، أسهم في تقويض الأمن الدولي ككل. وبالتالي استباحت العصابات المنظمة، التي تشارك فيها قوى حكومية مقتدرة تصل أحياناً إلى رؤساء حكومات ووزراء دفاع، الشرائح السكانية الضعيفة في العديد من المجالات، أبرزها وقوع 140 ألف إنسان ضحية الاختطاف والتوظيف في جريمة الدعارة سنوياً في أوروبا وحدها. جريمة تدرّ على أربابها 3 مليارات دولار.
وقال كوستا، «هناك ملايين من المستعبدين الجدد الذين يُباعون حالياً بثمن أعلى من الأثمان التي كانت متداولة قبل عصور». الرقيق لم يعد يأتي من أفريقيا وحدها. رجال العصابات يرحّلون المهاجرين المستعبدين من أوروبا وأميركا اللاتينية وينقلونهم إلى الولايات المتحدة، إذ يُنقل قرابة 3 ملايين مهاجر من أميركا اللاتينية إلى الولايات المتحدة سنوياً بما يدرّ 6.6 مليارات دولار لحساب المهرّبين.
ولا تزال أوروبا أفضل سوق لتجّار الهيرويين الذي يحقق 20 مليار دولار سنوياً. وباتت روسيا على رأس مستهلكي المخدرات التي تودي بحياة جيش كبير من الشبان يتراوح عددهم بين 30 ألفاً و40 ألفاً. وهذا يعادل ضعفي ما خسره الجيش الأحمر خلال عقد من الحرب الأفغانية في الثمانينيات.
الدراسة السنوية وجدت أن الدول المنتجة للمخدرات مثل أفغانستان وكولومبيا لا يستفيد اقتصادها سوى بالنزر اليسير من إجمالي عائدات المواد السامة. فمن أصل 55 مليار دولار القيمة الإجمالية للهيرويين الأفغاني في الأسواق، لا تزيد حصة أفغانستان منه على 2.3 مليار دولار يتقاسمها المزارعون والتجار والمتمردون، فيما حصة منطقة الأنديز من سوق الـ72 مليار دولار من مادة الكوكايين لا تتعدى 30 في المئة، بينما يحتفظ الوسطاء وكبار التجار بحصّة الأسد.
أما تجارة الأسلحة السرية، فأدنى من ذلك بكثير، وتقدّر بما يتراوح بين 170 و320 مليون دولار سنوياً. وهذه تمثّل بين 10 و20 في المئة من إجمالي سوق التجارة السرية العامة. مع ذلك، فإن عدد ضحايا تلك التجارة لا يقل عن عدد ضحايا الأمراض السارية.
الجريمة المنظّمة تشمل أيضاً تجارة الأحياء المهددة بالانقراض والأخشاب النادرة من أفريقيا وآسيا إلى أوروبا. وقدّر حجم تجارة منتجات الغابات السرية المنتقلة إلى أوروبا والصين العام الماضي بـ2.9 مليار دولار.
وفي قطاع الإنترنت، تتصدّر جريمة سرقة الهوية الشخصية ما عداها، حيث تكسب العصابات المنظّمة نحو مليار دولار سنوياً من سرقة معلومات تتعلق بـ1.5 مليون نسمة. كذلك فإن جريمة الإنترنت تهدد أمن دول بأسرها، لأنه من خلالها يمكن النفاذ إلى محطات التحكم في الطاقة، وأبراج مراقبة حركة الطيران ومحطات الطاقة النووية، ولقد حصلت حالات من هذا النوع بالفعل.
وحتى سوق العمالة الماهرة يتأثر كثيراً بنشاط المافيات التي تغدق في الدفع للنخب، من صحافيين ومحامين ومحاسبين ومهندسين ومقاولين ومصرفيين، وتحرم الشركات الشرعية والمؤسسات الحكومية من خبراتهم بسبب فارق الراتب والمكافآت الشاسع. وهؤلاء ينوبون عن المافيات في تأدية أدوارها الإجرامية على خير وجه، لكونهم يتولون دفع الرشى أو تبييض الأموال وتوظيفها على نحو مؤذ للاقتصاد العام.
وناشد التقرير تطبيق معاهدة باليرمو التي أبرمت من أجل توليد ردّ دولي لأخطار ذات طبيعة دولية، محذّراً من وجود دول غير راغبة في تطبيق المعاهدة وتتستّر على الجريمة التي ترتكب على أراضيها بسبب الفساد من جهة والخشية من هروب الرساميل من أرضها من جهة ثانية. كذلك حذر من أن الدول التي «تفشل في توفير الخدمات الأساسية من طاقة وماء وطرق وطبابة لمواطنيها» (مثل لبنان وغالبية الدول العربية) «يملأ المجرمون الفراغ». لذا، فإن تحقيق أهداف الألفية بخفض نسبة الفقر إلى النصف بحلول عام 2015، من شأنه إضعاف العصابات المنظّمة وتقليص أرباحها. لكن تلك الأهداف لا تبدو قريبة التحقيق، بل إن أوضاع الفقراء تزداد تأزماً جرّاء الأزمات المالية والأخلاقية السائدة.
وينتقد التقرير ضعف المؤسسات العدلية وأثره على التنمية. ودعا إلى زيادة الاهتمام بالمحاكم الجنائية الوطنية، محذراً من أن الجرائم تسبّب زعزعة الاستقرار.