«لا وقتَ لدي للتفكير في الكرامة حاليّاً»، تقول رانية. الشابة السورية التي وصلت إلى ألمانيا قبل ثمانية أشهر تبدو حائرةً أمام الأسئلة التي نطرحها عليها. «الندم؟ أحياناً بحس حالي ندمانة، وبس شوف أخبار الصواريخ والتفجيرات والبراميل بقول الحمد لله إني نفدت بجلدي».
زوج رانية انقطعت أخباره عنها عام 2013 بعدما انضم إلى إحدى المجموعات المسلّحة في الشمال السوري، لا أولاد لديها وهي تجد في ذلك «نعمة كبيرة». تنكبّ اليوم على تعلّم اللغة الألمانيّة كمرحلة لا بدّ منها قبل الانخراط في مجتمعها الجديد. تحكي الكثير عن «مراحل الذّل الأسود اللي شفتو، من قبل ما أطلع من سوريا لحتى صرت في الكامب». وبرغم غنى التفاصيل التي تذكرها، غير أنها لا تأتي بجديد. فالقصص المماثلة عاشها معظم اللاجئين السوريين، ووجد بعضها طريقه إلى الاعلام. من وجهة نظر خليل فإنّ مراحل الذل «ممر إجباري، تحرص دول اللجوء على عبورنا له». ابن دوما، الذي أجبرته الهواجس الأمنية على مغادرة دمشق قبل عام من الآن لم يسبق له أن شارك في تظاهرة، أو ما شابه «لكنّ مجرد وجود اسم دوما على هويّتي كان يسبب لي كثيراً من الأخذ والرّد على الحواجز». حين انتهى عقد إيجار منزله في دمشق، لم يتمكّن من الحصول على موافقة أمنية لتجديد العقد، وكان ذلك بمثابة نقطة في آخر السطر. بعدَها بفترة وجيزة وصل إلى «المهرّب المناسب»، وطار من بيروت إلى تركيا. ثمّ عبرَ بحراً إلى اليونان، التي انتظر فيها ريثما «زبطولي جواز مزوّر، باسم أوروبي، وطرت عألمانيا». الرحلة التي كلّفته حوالى 7000 يورو تُعد رحلة لجوء «فيرست كلاس»، لكنّها استنزفته ماديّاً. الخوف، الضغط النفسي، رحلة البحر، عنجهيّة المهربين، ومخاوف الإعادة من اليونان إلى تركيّا تكفّلت بالإجهاز على روحه المعنويّة. «لو كان استقبالهم لنا نابعاً من أسباب انسانيّة بحتة لوجدوا حلولاً تتيح لنا الوصول بكرامتنا. أعتقد أنّهم يريدون وصولنا مجرّدين من كل شيء، كي نشعر بأنّنا وُلدنا من جديد، ويغمرنا الامتنان». يُفضل الشاب توصيف شعوره بـ«الحنين» بدلاً من الندم الذي يعتقد أن «لا مكان له في سجلات هارب من بلاد الموت». يقول «لا أتمنى لأحد أن يترك سوريا ويأتي إلى هنا، نحن لسنا في الجنة الموعودة»، لكنه يقر بـ«صعوبة إقناع من يعيش في سوريا مهددا بالموت في كل لحظة بهذا الكلام».

المهربون لا يحبون الإعلام



الرحلة التي تكلّف
حوالى 7000 يورو تُعد رحلة لجوء «فيرست كلاس»
أبو المجد (اسم مستعار) هو المهرب الذي أوصلَ رانية إلى ألمانيا. يفضل الرجل الحديث عبر خدمة «فايبر» الصوتية. يظنّ أوّل الأمر أنّنا زبائن جدد، وحين يكتشف أنّ الحديث «إعلامي» يُبدي امتعاضه: «بدي أفهم شو فيقكم علينا؟ اكتبوا عن الحرب يا أخي، واتركونا نسترزق ونساعد هالعالم». يتهرّب أبو المجد من معظم أسئلتنا، ويكتفي بالقول إن أحد أسباب الإقبال الكثيف في الفترة الأخيرة «هو حرص اللاجئين على استباق فصل الشتاء، حيث تُصبح الرحلة أخطر، وعقباتها أكبر».

عروض وتنزيلات!

ردّ الفعل الحذر والمتوجس الذي قابلنا به أبو المجد لم يتكرّر لدى تواصلنا مع المهرب أبو الوفا (اسم مستعار). ويرجع ذلك إلى انتحالنا صفة زبائن. يشتكي الرجل من تزايد مخاطر مهنته، ومن دخول كثير من المهربين الهواة على الخط: «مفكرين الشغلة سهلة. أرواح العالم مو لعبة لك عمي. صرنا مسفرين أكتر من 5 آلاف واحد، ما غرق منهم ولا واحد». يبدي الرجل «تفهّماً» لإقبال كثير من السوريين على أصحاب الأسعار الأرخص، لكنه يقول «أخي استرخصوا، بس لا تنتحروا. خلونا نقطعكم البحر، وروحوا مشي، قد ما تعتبتو ما بتغرقو. البحر ما بيرحم». وكورقة أخيرة في سبيل «كسب زبون جديد» يطرح أبو الوفا صفقةً يجدها مغرية: «جيب 5 زباين بسفرك ببلاش، ولا مين عرف ولا مين دري». اللافت أنّ معظم المهربين النشيطين سوريّو الجنسية، أو متشاركون مع سوريين. لكل تهريبة ثمنها، والعروض كثيرة. وعلى طريقة الإعلانات التجارية يبدو كل شيء ورديّاً: «رحلة إلى: بريطانيا ــ ألمانيا ــ النمسا ــ فرنسا، خلال 72 ساعة، بظروف سفر ملائمة انطلاقا من تركيا وعلى مرحلتين: بحراً فجوّاً» تُكلّف 10500 يورو. أما السفر بحراَ من مرسين إلى إيطاليا «على متن مركب سياحي سريع ومهيّأ بظروف سفر ملائمة فيكلف 5500 دولار للشخص الواحد. ويحق لكل شخص حمل حقيبة بوزن 10 كغ». أما «العرض الأقوى» فينص على أنّ العائلة التي تصطحب طفلا أو اثنين «لا تدفع كلفة سفر الأطفال»!