الخلل الديموغرافي يهدّد وريثة الاتحاد السوفياتيربى أبو عمّو
تنتظر روسيا اليوم حصول ولادات جديدة، تماماً كما ينتظر المزارع دجاجاته أن تبيض، علماً بأن المزارع قد يقدم، حين ينفد صبره، على ذبح الدجاجات ليستفيد على الاقل من لحمها، أو ربما يُسارع إلى حقنها بالمواد الكيماوية لعل ذلك يعود عليه بفائدة ما. ولكن حال روسيا تبدو اسوأ من حال المزارع الذي ابتُليت دجاجاته بداء العقم، إذ لا يبدو أنها تملك حلوله، وجل ما تفعله هو الهروب إلى الأمام.
تغيّر المواطن الروسي وتبدلت أحواله، فبعدما عُرف بـ «شرقيته» نظراً إلى علاقته بالعائلة وتقديسه لها، أصبح يلهث وراء تفاصيل أخرى رآها من نافذته المطلة على الغرب. لم تعد العائلة أولوية ولا عاد إنجاب الأطفال هو الهم. انهارت القيم الاجتماعية التي أرساها الاتحاد السوفياتي السابق، وكانت روسيا عاصمته وقلبه النابض. في ذاك الزمن انتشرت المعاهد وتنوّعت البرامج لدعم الأسرة إلى حد حرمان الفرد من الحصول على ترقية أو الانضمام إلى الحزب إذا كانت عائلته تتعرّض للعنف. كانت الأسرة هي أساس الوحدة الاجتماعية.
انقلبت الأمور اليوم رأساً على عقب. لم يعد الروسي يرغب في الزواج. وفيما يربط الخبراء الاقتصاديون أسباب هذا التحول بالأزمة المالية، يحمّل علماء النفس الثقافة الجديدة وتبدل المفاهيم مسؤولية تحلّل الروابط العائلية، على غرار انتشار «الماكدونالد» في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
تاه الروسي في البحث عن أنماط الحياة الجديدة، فضاعت العائلة في غمرة لهاثه خلف سراب الحرية. انخفض عدد الولادات، وأصبح الإجهاض موضة العصر، بعدما باتت حالات الإجهاض تعادل عدد الولادات سنوياً. وتشير الإحصائيات إلى أن 1.2 مليون امرأة يتعرضن للإجهاض سنوياً، وتصاب نحو 30 ألف امرأة منهن بالعقم. لذا، لا يبدو مفاجئاً ـــــ وإن يكن صادماً ـــــ التقرير الذي أصدرته الأمم المتحدة أخيراً، وفيه أن عدد السكان في روسيا المقدّر بـ 142 مليون نسمة عام 2008، سينخفض إلى 116 مليون نسمة سنة 2050. أما مكتب الإحصاءات الفدرالي الروسي، فقدّر أن عدد السكان يمكن أن ينخفض بنحو 20 مليون شخص خلال الـ 20 سنة المقبلة.
ولا تبدو هذه الأرقام تفصيلاً في بلد شاسع مثل روسيا، التي تزيد مساحتها بنسبة 75 في المئة عن الولايات المتحدة. وما من بلد يواجه انخفاضاً حاداً في عدد السكان كما هي الحال مع روسيا، التي بدأت تشهد هذه الظاهرة اعتباراً من عام 1992، وقد مثّل سوء الخدمات الطبية والمشاكل الاجتماعية وارتفاع الإدمان على الكحول أحد أسبابها، علماً أن تزايد معدلات الهجرة في روسيا بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق أدى بدوره إلى انخفاض حاد في عدد السكان.
أثار هذا الواقع قلق الحكومة التي حذرت من أن «الخلل الديموغرافي يهدّد النمو الاقتصادي ودور روسيا على الساحة الدولية وأمنها القومي والجيش». ويبدو تأثير هذا الخلل على الجيش هو الأكثر خطورة، وخصوصاً أن الأخير لن يكون قادراً على تعزيز حجمه في ظل التوقعات التي تشير إلى انخفاض عدد الذكور البالغين 18 عاماً إلى نحو 50 في المئة خلال الـ15 سنة المقبلة. ومن شأن ذلك أن يقضي على حلم روسيا، أو بالأحرى حلم بوتين، بالتحول إلى دولة كبرى تملك القدرة على اتخاذ قرارات تدعمها بقوتها العسكرية والدفاعية والاقتصادية. وقد سبق أن أقلق هذا الواقع بوتين حين كان لا يزال رئيساً للبلاد، إذ علّقت صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» الأميركية عام 2001 على الموضوع بالقول إنه «إذا كان البعض قد بدأ ينظر إلى روسيا على أنها تسير على درب الاتحاد السوفياتي السابق، فإن الخطاب الذي ألقاه الرئيس الروسي (السابق) فلاديمير بوتين يؤكد هذا الانطباع، فقد أصبحت الأمومة القضية الرئيسية في خطابه».
بوتين لم يكتف بالخطابات، فقد كان يحفّز الشبيبة البوتينية (ناشي) على الزواج. وقد ذكرت بعض وسائل الإعلام أنه في أحد مخيمات الشبيبة كانت تنشر صور الديناصورات، في مؤشر إلى المخاوف من الانقراض.
هذا الواقع دفع روسيا إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات الوقائية. وأعلنت وزيرة الصحة الروسية، تاتيانا غوليكوفا، أنّ «الأطفال في عمر الرابعة عشرة سيخضعون لفحوص طبية مشدّدة في المدارس لمعالجة أيّ مشاكل صحية موجودة أو متوقعة بصورة فورية، وخصوصاً تلك التي قد تؤثر في صحتهم الإنجابية»، مشيرةً في الوقت نفسه إلى أن «نسبة الوفيات من الرضّع انخفضت بنسبة 6.9 عام 2009 مقارنة بعام 2008». وأضافت إنه «سيُفتتح المزيد من رياض الأطفال لتحفيز الأُسر على الإنجاب».
غير أن المشكلة في روسيا لا تكمن في انخفاض معدل الولادات فحسب، وهذه هي حال معظم الدول الغربية، بل في ارتفاع نسبة الوفيات في المقابل. وتجدر الإشارة إلى أنه بين عامي 1959 و1990، تضاعف عدد الأشخاص الذين تراوح أعمارهم بين الستين وما فوق. إلا أنه بحلول عام 2015، يتوقع أن يصل واحد من كل ثلاثة من هذه الفئة العمرية إلى سن الـ 75 عاماً.
إنها أزمة بكل معنى الكلمة. والأرقام تعكس واقعاً مريراً كما لو أن سكان روسيا قرروا أن يهجروا دولتهم بكثافة وبأساليب مختلفة. كان بوتين الرئيس على حق حين رأى أن المشكلة السكانية في روسيا هي أكبر تحدّ سيواجه هذه الدولة في المستقبل. الوقت يدهَم روسيا. إمّا أن تحمي سلال بيضها، أو لن يصيح الديك مجدداً مبشّراً بولادة جديدة.


الحل في الهجرة

يرى العديد من الخبراء الروس أن فتح أبواب استقبال العمالة الأجنبية والمهاجرين قد يكون أحد الحلول الفعالة لمكافحة الانخفاض الهائل لعدد السكان. وقال الخبير في مركز كارنيغي في موسكو، نيكولاي بيتروف، إنّ روسيا «ستحتاج في السنوات العشرين المقبلة إلى 20 مليون مهاجر لتعويض نقص العمالة».
إلا أن رئيس المجلس الفدرالي الروسي، سيرغي ميرونوف، قال إن هذا الحل له مخاطر لا تحصى، مشيراً إلى «تغيير التركيبة الإثنية والدينية». إذ يتوقع الخبراء أن يزداد عدد الوافدين من الجمهوريات السوفياتية السابقة، وخصوصاً من منطقتي آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، إذا فتحت روسيا أبوابها أمامهم. وهذا يعني أن أبناء القومية الروسية سيغدون أقلية أمام «الأجانب»، الذين تعتنق أغلبيتهم الساحقة الإسلام. وقد يفسّر هذا تصاعد ظاهرة العنف ضد الأجانب، وانتشار الأفكار العنصرية و«النازيين الجدد».