الحكومة تقرّ قانون التقاعد... وتردّد الاشتراكي يضعه بين الخاسرين
باريس ـــ بسّام الطيارة
شهدت فرنسا «إضراباً كبيراً» باعتراف الحكومة، إلا أن رئيس الوزراء فرنسوا فييون شدد على عدم التراجع عن مشروع إصلاح نظام التقاعد، بقوله «بلغنا أقصى حد للتنازلات الممكنة».
ربح ساركوزي رهانه، إذ إن أهم بندين في مشروع القانون قد أقرّا، ورفع سن التقاعد إلى 62 عاماً عوضاً عن 60، وبات الحصول على معاش تقاعد كامل يتطلب الوصول إلى سن الـ67 بدل الـ٦٥، وهو ما يسمح استناداً إلى حسابات الحكومة بالمحافظة على نظام متماسك وخفض العجز الضخم في هيئة المعاشات وتعويضات التقاعد، إلى جانب حماية التصنيف الائتماني المرتفع للدولة الفرنسية.
إلا أن ربح ساركوزي لرهانه لم يأت بسبب ضعف النقابات، التي استطاعت شحن تظاهرات مليونية عدة في فترة قصيرة نسبية، بل لأن «الجميع متفق على ضرورة إصلاح هذا النظام للمحافظة عليه».
لكن ساركوزي سيئ الحظ. فقد استطاعت النقابات، رغم خسارتها، تسجيل نقاط عديدة سوف يدفع ثمنها ساركوزي تراجعاً جديداً في شعبيته، ولن يذكر التاريخ أنه استطاع تنفيذ ما عجزت عن تنفيذه حكومات عديدة متعاقبة.
وتحاول النقابات اليوم البناء على التظاهرات والإضرابات لهز مسيرة ساركوزي السياسية. ولم يتردد أحد المتظاهرين في حمل لافتة كتب عليها «التخلص من ساركوزي».
وهو ما سوف يحاول ساركوزي في الأسبوع المقبل مداراته عبر تغيير حكومي معلن منذ أشهر. إلا أن هاجس ساركوزي والحكومة الفرنسية كتب أمس بين قوسي سؤال حول «مشاركة الطلاب ونزولهم إلى الشارع أم لا؟». ولهذا سارعت وزارة التربية منذ الصباح إلى نشر بيان بعدد المدارس المضربة لسحب بساط التأويلات وتثبيط عزم الراغبين في المشاركة، وادّعت أن فقط ٣٠٠ مدرسة مضربة، رغم أن المشاركة الطلابية، وإن كانت غير حاشدة، فقد كانت موجودة. غير أن الخوف الكبير هو من «عدم عودة الطلبة إلى المدارس» وبقائهم في الشوارع في سيناريو مشابه للذي أطاح غريم ساركوزي، دومينيك دوفيلبان، عام ٢٠٠٥ في نهاية عهد شيراك.
وما يزيد من مخاوف السلطات هو أن بعض التحركات ربطت بين المطالب الطلابية ومطالب النقابات حول قانون التقاعد الجديد. إذ ظهرت لافتات تقول إن «زيادة فترة العمل لسنتين تسحب مليون فرصة عمل جديدة للجيل الصاعد». وهذه الحجج تلقى آذاناً صاغية لدى الطلبة الذين يعرفون أن الشباب المتخرجين إما يعانون من بطالة ولا يجدون عملاً، أو يعملون بعقود عمل محدودة ويستعدون للعودة إلى البطالة.
من هنا، فإن الخروج عن الإطار العمالي والدخول في النفق الطلابي يمكن أن يمثّلا خطراً كبيراً على «المستقبل السياسي لساركوزي»، ولا سيما إذا لجأ الشبان إلى سلاح التصويت بعد 18 شهراً.
إلا أن قاطن الإليزيه لن يدفع وحده تكلفة تمرير قانون التقاعد، بل حزب المعارضة الأكبر، أي الحزب الاشتراكي، الذي يبدو أيضاً غير قادر على استيعاب المطالب وتبنّيها بسبب ميوعة مواقفه السابقة المعلنة، وتردده بالحسم في مسألة سن التقاعد وجعلها فقط تحت عناوين إيديولوجية، مع اعترافه بضرورة إطالة فترة العمل لامتصاص المديونية الكبيرة لمؤسسة الضمان الاجتماعي، ويقدم هذا على أساس أنه «حزب حكيم يستعد لتسلّم الحكم».
في هذا الوقت، تستفيد الأحزاب اليسارية الراديكالية من هذا «التناغم» بين الحزب الاشتراكي واليمين لتزيد من نفوذها، وخصوصاً في ظل تدافع الفضائح التي تشير إلى أن «أصحاب المال والأغنياء» لا يدفعون أثمان الأزمة المالية.
فبعد فضيحة ليليان بيتانكور، التي شغلت الصيف بسبب اتهامات وزير العمل (الذي يقف وراء مشروع القانون الذي تندد به الإضرابات) بالمحاباة، كشفت الصحف عن أنه بموجب قانون الدرع الضرائبي الذي وضعه ساركوزي حال وصوله، فإن بيتانكور استردت ٣٠ مليون يورو من الخزينة. وقبل يومين، وفي سياق الحكم على جيروم كيرفيل الذي سبّب خسارة ٥ مليارات يور لمصرف «سوسيتيه جنرال» وتحميله وحده المسؤولية مع تغريمه دفع ٤،٩ مليارات للمصرف، تبيّن أن هذا المصرف حصل على تعويض عن ثلث خسائره من مصلحة الضرائب (١،٦ مليار) ما جعل المواطنين يستنتجون «أن هناك أموالاً، لكن الأغنياء فقط هم الذين يستيفدون منها»، تماماً كما حصل إبان الأزمة حين أنقذت الدولة المصارف، لكنها عاجزة عن إنقاذ الضمان الاجتماعي.
يقود هذا الاستنتاج إلى زيادة التباعد بين المواطنين والحكام، وبالتالي زيادة الابتعاد عن السياسة والاقتراب من التطرف اليساري، بينما بقي التطرف اليميني صامتاً ينتظر دوره.