خلال الحرب الباردة، أُجبر الاتحاد السوفياتي، بسبب ميزان القوى والتكنولوجيا، على الانكباب على تصميم أنظمة الدفاع الجوي ووسائط اعتراض الطائرات من الأرض، فيما كانت أميركا، بسلاح طيرانها المتفوّق، تعتمد عقيدتها على السيطرة على سماء الخصم وإقصاء التهديد من الجو. كان تطوير أنظمة الدفاع الجوي مسألة «ثانوية» بالنسبة إلى واشنطن، ولكنها كانت على رأس قائمة المخططين السوفيات.
هذا الفرق يصير واضحاً إذا ما قارنا بين سماء موسكو، وهناك العديد من المواقع الالكترونية التي ترسم، فوق خريطة العاصمة الروسية، الدوائر الكثيرة المتداخلة التي تمثّل تغطية بطاريات الـ«اس ــ 300» و«اس ــ 400» (وقريباً «اس ــ 500») التي تزنّر المدينة من كلّ الاتجاهات، وبين واقع أن أميركا لم تبنِ حول حدودها وسواحلها ومدنها، حتى في عزّ سنوات العسكرة، نسقاً أمامياً من صواريخ الـ«سام» لحماية أجوائها ــ بمعنى أنّ طائرة معادية، إن لم تُرسل مقاتلات سلاح الجوّ لاعتراضها، فهي ستحلّق من نيويورك الى سان فرانسيسكو من دون أن تواجه مقاومة أو أي نظامٍ معدّ لملاحقتها وإسقاطها من الأرض.

النسخ الأحدث من «بوك» (سام ـ 17) مجهّزة برادار إلكتروني حديث

لهذا السبب، بينما تكاثرت الإبداعات العسكرية للروس في مجال الدفاع الجوي، كانت الأنظمة الأميركية النشأة قليلة، أكثرها معدّ لمهمات ومسارح متخصصة ــ كـ«باتريوت» الذي صُمّم في الأصل كي يحمي الجبهة الأوروبية من هجومٍ سوفياتي ضخمٍ ومفاجئ ــ وبعضها هو عبارة عن صواريخ جو ــ جو (الـ«امرام» مثلاًً) منصوبة على منصات أرضية وموصولة برادار (هذا على البرّ، أمّا بحريّاً فالوضع مختلف: أنظمة الاعتراض على متن المدمرات الأميركية، بصواريخها وراداراتها وبرامج إدارة القتال فيها، هي الأفضل عالمياً بلا منازع). هناك في روسيا، مثلاً، عائلة الـ«اس ــ 300» (سلفها السام ــ 5)، المتخصصة في اقتناص الأهداف من مديات بعيدة، ومواجهة الصواريخ البالستية. هناك أيضاً عائلة الـ«بانتسير» والـ«تور» القصيرة المدى (استبدلت الـ«سام ــ 8»)، والمكونة من عربات صغيرة ترافق وحدات الجيش في عملياتها، وتحمل عدداً كبيراً من الصواريخ إضافة الى رشاشات (ليس لاقتناص الطائرات فحسب، بل أيضاً لضرب الطائرات المسيرة والذخائرالذكية، كالصواريخ والقنابل، وهي تحلّق باتجاه القوات الصديقة).

سلالة الـ«بوك»

موضوعنا اليوم يتعلّق بالعائلة «المتوسطة» من الأنظمة الروسية، الـ«بوك»، والتي أنهى الجيل الثالث منها تجاربه هذه السنة، وسيدخل الخدمة في العام المقبل. الـ«بوك» الأصلي (سام ــ 11 دخل الخدمة عام 1978) جاء خلفاً لعائلة «كوب»، التي ينتمي اليها النظام الشهير في بلادنا، «سام ــ 6\كفادرات»، وهو صُمّم كي يُحمل على عربات مجنزرة، متحرّكة، تصلح لحماية قطع الجيش، ولكنها أيضاً ــ بمداها الذي يفوق 20 كيلومتراً ــ قادرة على نصب كمائن جوية واعتراض أسراب العدوّ من مواقع لا يعرفها، وهو ما أثبته المصريون والسوريون خلال حرب 1973.

ما ميّز الـ«بوك» عن السام ــ 6، إضافة الى صاروخ جديدٍ بمدى أكبر، كان أنّ كلّ عربةٍ حاملة للصواريخ صارت مجهّزة برادارها الخاص، أي إنها قادرة على العمل بشكلٍ مستقلّ ومن دون حاجة الى باقي عناصر البطارية. في السام ــ 6، كانت العربات التي تحمل الصواريخ تحتاج الى رادارٍ مستقل، يتحرّك معها ويوجّه صواريخها نحو طائرات العدوّ، وعليها أن تظلّ بالقرب منه ــ وبعضها من بعض ــ على الدوام. كذلك فإن الرادار (وكامل البطارية التي تتبع له) كان بإمكانه، كنظرائه في تلك الحقبة، الاشتباك مع هدفٍ واحدٍ لا أكثر في وقت واحد. أمّا مع الـ«بوك»، فلم يعد من السهل إغراق البطارية بالأهداف، كما فعل الاسرائيليون مع الدفاع الجوي السوري عام 1982، إذ صار بإمكان أربع عربات أن تتعامل ــ نظرياً ــ مع أكثر من عشرة أهداف في آن واحد، وأن تطلق 16 صاروخاً خلال هنيهات (النسخ الحديثة، «بوك ام 2»، قادرة على الاشتباك مع 24 هدفاً في وقت واحد).
هذا ما جعل نظام الـ«بوك»، بتطويراته المختلفة، سلاحاً مميزاً في الترسانة الروسية، لا مكافئ له في جيوش الـ«ناتو»: عربة مجنزرة، عالية الحركية، ولكن مداها ــ وصل الى 50 كيلومتراً مع الـ«بوك ام-2» ــ يقارب مدى الصواريخ المتوسطة (كالسام ــ 2)، وتستطيع الاشتباك مع الطائرات على أيّ ارتفاع وبأي سرعة. تشغيل البطارية، فوق ذلك، بسيط نسبياً، لا يحتاج الى بنية تحتية معقدة وطواقم عالية التدريب. بطارية البوك التقليدية، مثلاً، تحوي أربع عربات قتال أو أكثر، وعربات إعادة تلقيم، وعربة قيادة، إضافة الى رادارٍ مستقلٍّ قويّ للكشف، يرفد طواقم النظام ويمدّهم بالأهداف، ويجعلهم غير ملزمين بتشغيل أجهزة رادارهم طوال الوقت، واستخدامها فقط خلال فترة الاشتباك. إلّا أنّ كلّ عربة، وهي تحمل أربعة صواريخ بدلاً من ثلاثة في السام ــ 6، تستطيع العمل بشكل مستقلّ ومنفرد عند الضرورة.
في السنوات الماضية، أظهرت حروب جورجيا وأوكرانيا القدرة المميتة للمنظومة: بعد أن دمّرت الطائرات الروسية جلّ شبكة الرادار وأنظمة الدفاع الثابتة في جورجيا في حرب 2008، ظلّت منصات الـ«بوك» قادرة على اقتناص الطائرات الروسية وإيقاع الخسائر بها، وكانت ــ بحسب أكثر التقارير ــ مسؤولة عن إسقاط قاذفة تو ــ 22 ثقيلة، تطير عادة على ارتفاعات شاهقة، ويقودها كولونيل مخضرم يعمل في تدريب طيّاري الأسراب الاستراتيجية في سلاح الجوّ (وقد قُتل في الحادثة، إضافة الى زميلين آخرين، ولم ينجُ من الطاقم غير مساعد الطيار).

الحلقة الأخيرة

دخلت النسخ الأحدث من «بوك» (سام ــ 17) الخدمة وسوق التصدير، منذ عقدٍ تقريباً، وهي مجهّزة برادار إلكتروني حديث، يعطي مناعة إضافية ضد التشويش والوسائط المضادة، ويمكّن كلّ عربة من الاشتباك مع أهداف متعددة. انتشر هذا النظام في عدة دول، بينها مصر وسوريا (التي حصلت على النسخة الأحدث، بوك ام ــ2 اي). كذلك فإن إيران عرضت ــ عام 2012 ــ نظاماً محليّ الصنع اسمه «رعد»، يبدو كأنه مستنسخ عن «بوك ام ــ 2» (الشكل الخارجي للرادار مطابق لمثيله الروسي، ولكن الصواريخ التي عرضها الايرانيون يختلف تصميمها قليلاً عن الصواريخ الروسية).

أمّا الـ«بوك ــ ام 3»، الحلقة الأخيرة في العائلة، فهو يأخذ هذا المفهوم القتالي الى مستوى آخر. يبلغ مدى الصاروخ الجديد الذي سيسلّح النظام 70 كيلومتراً (بعض المصادر تقول 75)، أي إنّه يفوق مدى أكثر الذخائر الموجّهة التي تحملها الطائرات المهاجمة. أصبح بإمكان عربة لا يزيد حجمها على حجم شاحنة مدنية، تختبئ بين الأشجار أو مركونة إلى جانب الطريق، خاصة إن حظيت بمعونة رادارية خارجية، أن تشكّل تهديداً مانعاً لأي طائرة أو قاذفة في العالم.
للمرة الأولى، تتخلى عائلة كوب/بوك عن الشكل المتميّز لصواريخها المكشوفة، لمصلحة حفظها في اسطوانات، وهو ما يسهّل الصيانة واستبدال الصواريخ. التقدم التكنولوجي في مجال وقود الصواريخ وأنظمة التوجيه لا ينعكس زيادة في المدى فحسب، بل أيضاً في خصائص طيران ومناورة متفوّقة، الى درجة أنّه يصعب على أي طائرةٍ أن تفلت من اطباق الصاروخ عبر السرعة والحركات البهلوانية. هذه المميّزات هي التي تدفع الشركة الصانعة إلى المفاخرة بنسبة خطأ تبلغ 0.99 في المئة (على حدّ زعمها)، زاعمة أن «بوك ام 3» هو «قاتلٌ من طلقة واحدة»، ينفي الحاجة إلى إطلاق أكثر من صاروخٍ على كلّ هدف.
بل إنّ البعض يحاجج بأنّ النظام الجديد هو أفضل من الـ«اس ــ 350» («فيتياز» ــ النسخة «الخفيفة» من الاس ــ 300)، بسبب استقلالية عناصره، وحركيته العالية ــ خاصة النسخة المجنزرة ــ واحتوائه على قناة توجيه بصرية بديلة، تسمح بملاحقة وضرب الأهداف عبر الكاميرا الحرارية ومن دون تشغيل الرادار (هنا يجب أن نتذكر أن الـ«بوك» مصمّم لمصلحة الجيش، فيما الـ«اس ــ 350» يستخدمه سلاح الجوّ، ولهما متطلبات مختلفة).
التطوّر الآخر هو أنّ «بوك ــ ام 3» سيكون قادراً على إطلاق صواريخ ذات «توجيه راداري نشط»، ما يعني أن الصاروخ لا يحتاج الى أن «يركب» على موجة مستمرّة يبثّها الرادار لإرشاده، بل يكفي أن يبرمج الصاروخ للطيران الى المنطقة العامة للهدف، وهو يحتوي في رأسه الباحث على رادارٍ صغير، يطبق على الطائرة العدوّة ويذهب باتجاهها تلقائياً، من دون تدخّل من الرادار الأرضي.

تخلت عائلة
كوب/بوك عن الشكل المتميّز لصواريخها المكشوفة، لمصلحة حفظها في اسطوانات
هذه التقنية المتقدمة (تستخدم عادة في صواريخ جو ــ جو الحديثة والأنظمة البعيدة المدى) ترفع كثيراً من كلفة الصاروخ، ولكنها تزيد من فعاليته، وتحرر الطاقم الأرضي بشكلٍ كبير، وتسمح للمنظومة، حين تعمل في بيئة تعجّ بالتهديدات، باصطياد الطائرات العدوة بشكلٍ صامت تقريباً.
في كلّ الأحوال يتبدّى، مع دخول «بوك» الجديد الى الخدمة، أنّ تكنولوجيا الصواريخ والرادارات الحديثة، التي أدت الى تقليص حجم ووزن الإلكترونيات، قد أفسحت في المجال لمنظومات صغيرة وبسيطة (نسبياً) كي تطال أهدافاً كانت محرّمة عليها في الماضي. صار بالإمكان حشد مميزات «بوك» أو «اس ــ 300» ــ مدى بعيد، رأس حربي فعال، توجيه نشط ــ في صاروخ صغيرٍ رشيق، قادرٍ على المناورة الفائقة والنيل من أهداف بسرعة الصواريخ البالستية (المرحلة الأخيرة من صاروخ سام ــ 5 القديم، للمقارنة، والتي كان يُفترض بها أن تُلاحق الطائرات وتكسر مناوراتها، هي بحجم فيلٍ صغير). التكنولوجيا، وهذه قاعدة قديمة، تخدم المدافع أكثر من المهاجم، والـ«بوك ــ ام 3» دليلٌ جديدٌ على ذلك.