مشاهد متنوّعة لا بد لزائر مدينة قم أن يلاحظها، في مقدمتها تواضع السكان وكرمهم المستمدّان من مركز المدينة الديني واستضافتها لمرقد السيدة «المعصومة»
قم ــ جمانة فرحات
تأبى العيون أن تغمض ولو قليلاً في الطريق من طهران إلى قم وهي تراقب سحر السهول الصحراوية والصخرية بمساحتها الشاسعة المنتشرة على طول الطريق الممتد لأكثر من مئة وخمسين كيلومتراً، كان الباص كفيلاً بمضاعفتها وهو يسير بتأنّ. سهول تتشكّل في وسطها تضاريس متنوعة، تضاف إليها أشجار صغيرة تتوزع على جزء من الطريق، وترافقك حتى اقترابك من مدخل المدينة.
عندها فقط تتبدل المعالم لتطغى عليها صبغة دينية تشعر بها في كل خطوة تخطوها في أرجاء المدينة.
في البدء تلفت انتباهك منازل حجرية بسيطة موحية لك بتواضع أحوال قاطنيها وزهدهم.
وحدها صور المرشد علي خامنئي، إلى جانب صور الخميني، كانت تزين مختلف الشوارع احتفاءً بزيارة خامنئي لقم، على الرغم من تعدد العلماء الدينيين الذين تخرّجوا في حوزاتها الدينية وذاع صيتهم في العالم الإسلامي.
وسرعان ما تكتشف عند التنقل بين الأزقة، أن موقع قم، بوصفها من أهم المراكز الدينية في البلاد، قد انعكس تناغماً بين سكانها، وتحديداً في ملبسهم، حتى تشعر أنهم ملتزمون بزيّ شبه موحّد يغلب عليه السواد.
فاللون الأسود يطغى على ملابس الرجال، سواء المشايخ الذين تكفي عمائمهم وعباءاتهم للدلالة عليهم، أو طلاب الحوزات الدينية الذين يسهل تمييزهم بقمصانهم الطويلة.
أما النساء فقد اختفت معالمهن خلف تشادور أسود، ما يجعل التعرف إلى الغرباء عن المدينة أمراً لا يتطلب أي عناء، ولكن من دون أن يؤثر ذلك على تصرفات سكان قم أو حتى نظراتهم، وهم المعتادون استقبال زائرين وطلاب من مختلف الجنسيات على مدار السنة.
وبينما اتّحد سكان قم تحت غطاء أسود من الملابس، ترى الشارع على طول الطريق من مبنى المكتب الإعلامي الإسلامي لحوزة قم العلمية المتميّز ببنائه الحديث وكرم مضيفيه مروراً بمكتبة السيد المرعشي النجفي، وصولاً إلى مقربة من مقام السيدة فاطمة بنت الإمام الكاظم المعروفة بـ«المعصومة»، كأنه مكتبة كبيرة متعددة المداخل. المكتبات يجاور بعضها بعضاً، وتكاد تفقد التمييز بينها لولا بضعة محال تختص ببيع المسابح والخواتم إلى جانب بعض الحاجات الأخرى.
حتى إن معظم بضاعة الباعة المنتشرين على الأرصفة تروّج لمستلزمات دراسية. وحده ذاك الطفل الصغير يعرض عليك شيئاً مختلفاً. قياس الوزن على ميزان حديث مقابل بدل مادي يوفّر قوت يومه. يرفض أن تمنحه مالاً بلا مقابل، ولا يجادلك في ما تقدمه، عاكساً اعتزاز أهل المدينة بأنفسهم.
تواصل السير وأنت تفكر في البراءة التي علت وجه ذاك الطفل لتقترب من مقام «المعصومة»، الذي ينظر إليه الإيرانيون بوصفه درّة مدينتهم المقدسة ونبض حياتها، إلى جانب مسجد جمراكان وعدد من مراقد أبناء أئمة الشيعة وأحفادهم.

موقع قم بوصفها من أهم المراكز الدينية في البلاد انعكس تناغماً بين سكانها

تبدأ طبيعة المحال بالتغيّر؛ فمحال الحلوى الإيرانية، وتحديداً «السوهان» الذي تشتهر به المدينة، تحتل حيّزاً أوسع.
وبينما تتسارع الخطى باتجاه أولى بوابات المقام الأربع، يلفتك رجال يرتدون بذلات كحلية اللون تتميّز بطولها، تكتشف سريعاً أنهم ليسوا سوى حراس المقام، ويطلق عليهم اسم «الخدّام»، يتباهون بما يؤمنون بأنه شرف يحظون به دون الكثيرين.
يبادرونك بطلب عدم التصوير وضرورة التزام النساء بارتداء عباءات قبل الدخول. وبمجرد أن تتجاوب معهم، يصبح الدخول إلى الحرم متاحاً أمامك. تدنو من المدخل الرئيسي فتتضح جمالية المقام. ترفع رأسك قليلاً لتشاهد مآذن متعددة تتوسطها قبة مذهبة. تتجه ببصرك نحو الأسفل، فتُفاجأ بأعداد كبيرة من النساء والرجال يفترشون الأرض في فناء واسع يطلق عليه اسم الصحن الكبير، وتصدح ألسنتهم بأدعية وصلوات تزداد خشوعاً كلما دنا الزائرون من مدخل مرقد السيدة المعصومة.
وفي الداخل، حيث يصعب أن تثبّت قدميك في الأرض لثانية واحدة في ظل تدافع النسوة في القسم المخصص لهن، تتعالى أصوات الأدعية والصلوات، وعيون الزائرات شاخصات باتجاه الضريح المحاط بـ«كاشي» نفيس يعود تاريخه إلى بداية القرن السابع جُدّد مرات عدة. يمر الوقت سريعاً داخل المرقد، حارماً إياك من متعة التنقل بين محال مجاورة مليئة بمختلف أنواع البضائع. يعلو صوت القرآن في الأرجاء إيذاناً باقتراب صلاة المغرب، عندها تتوحد حركة الزائرين لأداء الصلاة.
وبعد أن يرخي الظلام بظله فوق المدينة، مانحاً إياها رهبة إضافية، تستعد للعودة من حيث أتيت.
وكما كانت بداية الرحلة، توقف لا بد منه في ضيافة مقر المكتب الإعلامي لحوزة قم العلمية، تخرج منه وفي حوزتك نسخة مترجمة إلى الإنكليزية من القرآن، تحملها معك في طريق العودة إلى طهران. يتواطأ التعب مع الظلام الدامس بعدما اختفت معالم الطرق، فتطبق العيون قليلاً. يمرّ الوقت سريعاً، تدرك معه أنك عدت إلى قلب العاصمة، حيث إيقاع مختلف من الحياة.