نيويورك| تسعى الأمم المتحدة إلى النأي بنفسها عن تسبّب جنودها العاملين في هايتي بنقل وباء الكوليرا إلى السكان. ولم يكد وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون حفظ السلام، ألان لوروا، يعلن عزم المنظمة الدولية على تأليف لجنة للتحقيق في أسباب انتشار الكوليرا في هايتي تبدأ عملها قبل نهاية السنة، حتى خرج الأمين العام بان كي مون ليؤكد أنها ستتألف من علماء في الأوبئة وخبراء في الأحياء المجهرية، وستكون «مستقلة ومؤلفة من باحثين موثوقين». ويأتي تحرّك الأمم المتحدة بعد ترويج وسائل الإعلام المحلية والإقليمية لوجود احتمال أن يكون الجنود النيباليون المشاركون في بعثة الأمم المتحدة مصدر العدوى. واتهمتهم بنقل الوباء من خلال وجودهم في قاعدتهم على أحد روافد نهر آرتيبونيتي لتصيب الأهالي المشردين.
إلا أن وكيل الأمين العام لشؤون حفظ السلام نفى تلك التهمة نفياً قاطعاً، موضحاً أن أياً من أفراد قوات حفظ السلام لم يتعرض للإصابة بالكوليرا أو ظهرت عليه عوارضها. وأضاف، في مؤتمر صحافي، أن عدة اختبارات أجريت على المياه في معسكر القوات النيبالية أظهرت خلوّها من أي جراثيم ذات صلة بالمرض الوبائي.
في هذه الأثناء، توقف بعض الباحثين عند المصادفة بين تسارع وتيرة إصابات الكوليرا في هايتي وانتشار الحمى الضنكيّة في الجانب الجنوبي الشرقي من الولايات المتحدة، في ولاية فلوريدا، وفي مقاطعة «كي وست» تحديداً.
وأصاب الوباء 10 في المئة من سكان منطقة « كي وست» خلال العام الحالي مقارنة بنسبة 5 في المئة من السكان أصيبوا في عام 2009 الماضي، عند عودته إلى الظهور أول مرة منذ عقود.
ويرى الباحثون أن هذه الإصابات تعود إلى فصيلة من البعوض المعدّل وراثياً أطلقت من مختبرات قريبة في إطار تجارب على حروب بيولوجية. وتساءل موقع «تروث أوت» الأميركي، المختص بنشر أبحاث وتقارير سريّة، عن سر انتحار العالمة في مجال أبحاث على البعوض، تشو هان، في منتصف تشرين الثاني 2010، وعلاقة هذا الانتحار بالحمى الضنكية في جامعة فلوريدا الجنوبية.
كذلك تحدث الموقع عن امتلاكه قرائن تؤكد إجراء تجارب جرثومية أميركية على سجناء من دون علمهم، شملت الحمى الضنكية وبعض الفيروسات «بعضها ربما انتهى إلى الوفاة».
وربط الموقع بين تفشّي الحمى الضنكية في فلوريدا، وعمليات الرشّ الجوي للبعوض المعدّل وراثياً بهدف القضاء على البعوض الطبيعي، فكانت النتيجة عكسية تماماً.
ومن المعروف أن البعوض المعدّل وراثياً أطلق أول مرة عام 2009 في جزر كايمان القريبة من كوبا وهايتي بغرض محاربة «حمى الضنك». وهذه التجارب لم تكن فريدة من نوعها، بل تكررت مرات عدة في الأربعينيات والخمسينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
ولم يكتشف العلماء بعد علاجاً لحمى الضنك التي تُعدّ البعوضة «المصرية» Aedes aegypti المصدر الأساسي لها. وقد أجريت أبحاث كثيرة على هذه البعوضة بهدف القضاء عليها أو تسخيرها في حروب جرثومية. فالمختبرات البريطانية والأميركية عدّلت إحدى جينات البعوضة المصرية، بحيث تجعلها عقيمة عاجزة عن نقل الحمى أو تموت بسرعة. وكانت الغاية من هذا التعديل جعل البعوض المعدّل وراثياً يتزاوج مع البعوض الطبيعي ويؤدي إلى انقراض الجنسين.
والبعوضة الجديدة حملت الرمز العلمي OX513A وأُطلقت الملايين منها خلال العامين الأخيرين في جزر الكايمان الاستوائية الواقعة في البحر الكاريبي جنوبي كوبا. لكن البرنامج ليس بريطانياً صرفاً، بل تشارك فيه مجموعة من المختبرات الأكاديمية ومنظمة الصحة العالمية ووكالات رسمية في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وماليزيا.
وليس في هذا التعاون ما يثير القلق باستثناء أن الحمى الضنكية عادت منذ العام الماضي لتغزو بسرعة منطقة كانت خالية تماماً منها، وهي أميركا الشمالية، انطلاقا من فلوريدا.
ولم ير بعض العلماء صدفة بريئة في ما جرى. ويقولون إن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية كانت مهتمة منذ أربعينيات القرن الماضي بتطوير سلاح بيولوجي معتمد على الحمى الضنكية. وأجرت تجارب واسعة في هذا المجال في مختبرات «فورت ديتريك» منذ عام 1942. وبحسب وثائق الوكالة نفسها، ووفقاً للجنة من الكونغرس تألفت عام 1975، تحولت ثلاث مناطق ممتدة بين مدينة بنما في أميركا الوسطى ووسط ولاية فلوريدا إلى مواقع اختبارية لتلك الأبحاث.
أما غالبية سكان المناطق التي خضعت للتجارب، ولا سيما منطقة «أفون بارك»، فكانوا من الزنوج المعوزين الذين يقطنون مساكن أُنشئت حديثاً.
وتحدثت وثائق إحدى التجارب عن إطلاق 600 ألف بعوضة في «أفون بارك»، حيث توفي ما لا يقل عن 6 أشخاص نتيجة ذلك. كذلك وقعت إصابتان في صفوف الموظفين العاملين داخل مختبرات «فورت ديتريك» في ميريلاند.
وفي عام 1978، كشفت إحدى وثائق البنتاغون التي تحمل عنوان «الحرب البيولوجية: التجارب السرية والمتطوعون» عن حصول اختبارات في منطقة كي وست أجراها فيلق وشعبة العمليات الكيميائية الخاصة في «فورت ديتريك». وعلى غرار تجارب وقعت عام 1958، كان العلماء يربّون البعوض في خمسين موقعاً تمتد من ولاية جورجيا مروراً بميريلاند وأوتاه وأريزونا وصولاً إلى فلوريدا. وعرف البرنامج، الذي نفّذ بالتنسيق مع معهد روكفيلار في نيويورك، بـ«الكرّاز»، وشاركت فيه مجموعة من الأكاديميات العلمية المرموقة، منها جامعة فلوريدا وشركة «لوفيل كاميكال» الكيميائية الشهيرة.


اتهامات سابقة لـ«سي آي إيه»

في عامي 1985 و1986، اتهمت نيكاراغوا، التي كانت في حالة عداء مع الولايات المتحدة، الاستخبارات المركزية الأميركية بمحاولة نشر وباء الحمى الضنكية على أراضيها. ورغم أن الولايات المتحدة نفت ضلوعها في الأمر، إلا أن باحثين من الجيش الأميركي أقرّوا بعملهم الحثيث في مجال الأسلحة الجرثومية في مختبرات «فورت ديتريك» وفي مختبرات «فريدريك» في ميريلاند منذ الثمانينيات من القرن الماضي. واعترفوا في حينه بالاحتفاظ بمستعمرات ضخمة من البعوض الحامل للحمى الصفراء وللحمى الضنكية، فضلاً عن أنواع مختلفة من الفيروسات.
كذلك تعرّضت كوبا في عام 1981 لموجة وبائية بحمى الضنك، فأصيب ما يزيد على مئة ألف كوبي جرّاءها. وربط باحثون أميركيون بين تلك الموجة وأبحاث وكالة الاستخبارات الأميركية. وعلى أثرها اتهمت وسائل الإعلام السوفياتية الاستخبارات الأميركية في عام 1982 بنقل الوباء إلى باكستان وأفغانستان.