في المقهى مع «الرفيق» يوم الإثنين الساعة الثامنة مساءً. القطط تموء، عاشقان، يصرخ أحدُهما على الآخر أمام «مسرح المدينة»، مشاجرة حادّة في محلّة الصيرفة، والقهوة بمذاقها الحامض غير صالحة للشرب. هو يقاوم سخطه بمحاولات (متكررة) فاشلة للتثاؤب، وأنا لا أتوقف عن هزّ رجلي. العيون حمراء، واسعة كبيرة، تفيض بالشراهة، تعاين أبنية الإسمنت بقرف وتتفقّد-عبثاً- فسحة نائية بعيدة عن هذا الطنين. مجّ السجائر شغّال لا تقاطعه همسة باستثناء بعض المفردات الغبية التي تأتي على مضض: «وجع رأس»، «عجقة يا مان»، «صوته عالياً»، «أغلق حانته»، «مواد العدد جاهزة»، «هانيز برغر» وهكذا. بدا المساء قاعة جنائزية كبيرة والحاضرون مومياوات. بدا أنه سيكون حافلاً بدقات القلب السريعة.
(تصميم: فرانسوا الدويهي)

«رينع...رينغ...رينغ». رنّ إنذار التنبيهات على جهازي الخلوي. خبر عاجل: «دوّى انفجار كبير فوق العاصمة الأميركية واشنطن والأسباب مجهولة لم تُكشف بعد». ثوانٍ معدودة مرّت ليتبع الخبرَ خبرٌ آخر: «شعر المواطنون بهزّة قوية، وقد أفاد شاهد عيان بأنه رأى، بأمّ عينيه، منزلاً يطير عالياً». أوف! «يبدو أن هزّة أرضية صاعقة دمّرت واشنطن يا رفيق» قلتُ. « لقد تنبأ فيها الخبير الهولندي». أقسم «الرفيق» أن معلومته دقيقة.
حسناً! دخلت إلى «تويتر» لمتابعة المجريات. كانت أخبار مراسلي الخبر العاجل، وصُناعه، على «تويتر» بحالة تضارب أو مزاح. تفاوتت المعلومات بين من تحدّث عن مركباتٍ فضائية هبطت من المريخ وحطّت رحالها على الأرض، ومن «لصق» فيديو انفجار مرفأ بيروت على الحادثة وجعله حدث المناسبة (عدا إذعاننا التّام للاستيراد، كأننا لا نصدّر إلا الكارثة؟). «هؤلاء الأميركيون الأوغاد لم ينتجوا أساطيرهم. حتى ت.إس. إليوت... عاد إلى ملاحم الإغريق. لا يزالون يتحدثون عن الكائنات الفضائية يا رجل. حضارة هوليوود أشبه بأسطورة رديئة». سألني: «لكن ما الذي حدث بالضبط؟» فقلت له إن «شيئاً» ما حدث. هم سمعوا صوتاً مهولاً ويخالون أنه انفجار ضخم لكن الصحافة تشك بهجوم فضائي. فضحكنا كأبلهين.
ليلاً، مر الوقت بطيئاً، ودقات القلب سريعة لم يكبحها سوى نوبات طويلة من السعال. اتصل بي «الرفيق» عند الثالثة فجراً فخرجت إلى الشرفة. «لا، لا، هي سيارة مارّة، لست أنا من أسمع وديع الشيخ!» قلتُ. «العمى! ما هذا الصوت... كيف لم تنفجر أذناه بعد؟» وأردف قائلاً: «طائرة إف16 كانت تحلّق فوق واشنطن وخرقت جدار الصوت. هذا كل ما في الأمر، أو أقلّه هذا ما صرّحوا به رسمياً. لا داعي للهلع» ثم أغلق الخط. فكرت، ما هو غير الاعتيادي في هذا؟ أليس اختراق جدار الصوت أمراً مألوفاً؟ ماذا عن أصوات الزحام، والجلبة، والعيش التائه، ألا توازي «صوت» اختراق جدار الصوت، والفرق بينهما أن الأول ليس مكثّفاً مضغوطاً كدفعة واحدة بل هو متفرق، مبعثر وعشوائي؟
من فوقي، خط الطيران مزدحم. ضوضاء في السماء: ومضات لونها أحمر قادمة من مكابح الطائرات التي تضرب فراملها في الهواء قبل أن تحطّ في المطار. ربما خرقت هذه الطائرات جدار الصوت، لا أعلم. كانت أذناي تطنان، وكنت أسمع أصداء: مواء القطط، ملامة العاشقين، شتائم الصرّاف، والأزعر تحت منزلي الذي لا يعلم أن الليل قاعة جنائزية كبيرة، ولا يحترم لحظات الحداد.
يستبيح هذا الضجيج الأمكنة ولا يفضي إلى شيء. يغدو العيش فيه أشبه بالقابع داخل فقاعة صابون. الأصوات جارفة، دامية كقنابل إف16، تُخلِّف وراءها ما وصفه وجدي معوض بـ«قذيفة في القلب». عن هذه الجلبة الشاقة المستبدّة سيكون محور عددنا هذا. عنوان كوميك هاشم رسلان «بتسمع مني» يصلح أن يكون بداية النصيحة الملحوقة بـ«اقرأ هذا العدد». فلتكن مقالات هذا العدد هي المرآة الواقية من رصاصة: الضجيج، الضجيج.