-I-
هناك حقيقةٌ شديدة الصّراحة والفجاجة: ألا وهي أنّنا نتألّم. بدءاً من ألم المفاصلِ والصّداع والقولون، مروراً بآلام القلب (حبّاً، وانسداداتٍ)، وليس انتهاء -فالألمُ لا يزولُ، هو صنوُ وجودنا- بالألم الوجوديّ: أن نكون في العالم. لا فضلَ لألمٍ على آخر. في أشدّ أنواع الشقيقةِ التي تُصيبُ رأسكَ، تكون في معمعةِ سؤال الوجود والحياة والفناء. والألمُ الجسديّ برمّته هو منبع السّؤال عن كلّ ما حولنا: فالألمُ الجسديّ هو ردّة فعلٍ على الخارجيّ، على كون أجسادنا «ملقاة هناك» على قارعة الحياة، ليس الحياة اليوميّة فحسب، بل الحياة بما هي خبرة، تجربة، معاناة من الشدّ والجذب. ألمُ الضّرسِ أشدّ ضراوة من ألم مسألة فلسفيّة: فالفلسفة هي تافهة في ليلةٍ لا ينامُ فيها جسدٌ بسبب ضرس يتجرّع ألماً وورماً.
كتب ميلان كونديرا ذات مرّة في تحفته، رواية «الخلود»، عبارة لا بدّ من التوقّف عندها لإدراك أنّ التألُّم الجسديّ لا يضاهيه حتّى كوجيطو ديكارت «أنا أفكّر إذن أنا موجود» الذي يُعتبر هو عِماد الفلسفةِ الحديثة من حيث هي افتتاح لأفق جديد للتفكير في الذّات. يقول كونديرا: «أنا أفكّر إذن أنا موجود: هو قولُ مثقّف يستهين بوجع الأضراس. أنا أحسّ، إذن أنا موجود: حقيقة أعمّ بكثير تشمل جميع الكائنات الحية». والفقرة السّالفة تشرحُ ذلك تماماً.

(رسم: إليز زخور)

يستهلّ الألمُ عملَه من الجسد تحديداً. إنّه ألم جسدانيّ في جوهره، حتى وإنْ كان معرفياً. هناك، تعلمون ذلك بالطّبع، حالاتٌ تصاحب المتسائل/ الفيلسوف/ الشاعر/ السّارد من قضّ المضاجع، والسّهر، والحمّى («وزائرتي كأنّ بها حياء»/«لا يسهرُ الليلَ إلّا مَن به ألم»، جدّنا المتنبي) ينجمُ عنها السؤال، والطّريق، ويهتدى السّبيل بها. إذن، الألمُ سابقٌ بمعنى جسديّ على ما نقوم به. فإذا كان كلّ ما نفعله هو، من حيث كينونتنا، أمراً «يلمّ بنا»، فنحن نألمُ.
إذن، نحن نتألم. دعونا من هذا الكليشيه الذي نختبره جميعاً. فسواء أكان الألم هو «زوال اللذّةِ» (القاضي عبد الجبّار)، أو كان في «إدراك ما ينفرُ عنه الطّبع» (الجُبّائيّ) أو «ما يُلمّ بالشخص» بحسب اللسّان العربيّ، أو كان ألماً ناجماً عن معاناة فلسفيّة، أو صداع شقيقة… إنّه ألمٌ. كيف نخون الألم؟ أو كيف يخوننا؟


-II-

… بالكتابة.

ما يمكننا أن نكتبه هو الشيء الذي نخونه دائماً، والذي نعرّضه إلى مقايضة خاسرة مع اللّغة مهما بدت رابحة، ومهما بدت اللّغة قريبةً ودانية كغصنٍ يتدلّى. تبقى الأشياء التي لا تُكتَب، ولا تُترجم إلى حروف وكلمات، ليست هي الأصدق فحسب، ولكن هي الأكثر انهماماً فينا، تسكننا كشبحٍ لا يقبض علينا عند منعطفاتٍ بلاغيّة بعينها، يبقى يزاولنا كفكرة تتأرجح على مفصل البعد والقرب، كشعور لم يجد سبيلاً للفهم ولا للكلام. لكنّها أيضاً -يا للمفارقة- ما كانت لتُتصوَّر إلّا عبر اللغة ذاتها.
ونحنُ نستعيذُ من شرّ اللّغة، نقترفُها مع كلّ استعاذة، مشكلتنا مع اللّغة أنّها تريد أن تضحّي بالذات في مقابل أشياء أخرى تتعلّق بها لا بنا. أليست الذات تصوّراً وصنيعةً، أي لغةً؟ بمعنى، كلّما أفلتَ منها قابلها: تلك هي المفارقة ببساطة. نحن نفكّر في الهروب من اللغة عن طريقها، نتجاوزها بها، نضيقُ بها عبرها لا خارجها، حتى «ما لا يُكتب» ليس بمنأى عن تصوّرنا ذاته لما يكتب وما لا يُكتب.
في فيلم The words عام 2012، قال له: «أنت أخذتَ تلك الكلمات، فيجب أن تأخذ الألم». وذلك لأنّ الكلمات ليست كلماتٍ أبداً، إنّها شيء من الدّم واللّحم، تخرج من تجربةٍ واجتراح لأشياء حتى ولو كانت عاديّة، ولو لم يكن لها معنى. وبالتالي، مَن يلجأ إلى لغته هو، في واقع الأمر، يلجأ إلى ألمه، حتى ولو كان ألماً جميلاً، ولو كان سعادة.
نبحثُ دائماً عن مساحةٍ لشعور عظيم خارج حدود وأفق اللغة، ولكنّنا في بحثنا ذلك نعبّر عنه باللغة، لذلك تغدو اللغة هي الشبح، هي المسكوت عنه والمنطوق، وهي هروبنا الأبديّ منها إليها، عبرها وفيها نمسّد أفراحنا وأتراحنا على جدول الكلمات اللواتي ينهلنَ ممّا لا يُرى، كعرّافةٍ قادرةٍ دائماً على القول، تغرينا بخداعها، لكنّنا نكتشفُ خداعها بها.

-III-

كونك تتألّم لا يعني أيّ شيء، ويعني كلّ شيء في الوقت نفسه: فألمك لا شيء؛ الكلّ يتألّم، أشدّ أو أقلّ ليس المهمّ. وهو كلّ شيء، لأنّ الألم هو جديد على الدّوام، وتجربة فريدة ومُباغتة كلّ مرّة. وذلك على كلّ المستويات: ألمك الجسديّ أو النفسيّ أو «القوميّ» أو «الكونيّ». ما يُؤلم الإنسان في ألمه هو أنّ الجميع يألمُ مثلما يألم هو، وبالتالي يشعر بلا-فرادة ألمه من حيث هو ألم. بينما الألم، والمرءُ يتجرّعه، فهو فريد. ولذلك، لا تنشأ الأسئلة إلّا من الألم.
هذه الثنائيّة في الألم هي فلسفيّة. والفلسفة لا تنشأ إلّا من ألمٍ ما. ربّما كان علينا أن نتألّم لنسأل، أو لنتفلسف بلغة جاك دريدا. الألمُ في بعده الكونيّ مشاع للجميع. بينما اختباره لا يمسّ سوى الذات، فرداً أو مجموعةً في أمّة، أو كياناً، أو ملّة. لا نتألّم إلّا وهناك جسارة للسؤال. فالألم هو اعتراضٌ على الحياة، وعلى اللاعدالة والظّلم المتأصّل في النّسق الذي تعيشه الأجساد والأمم المتألمة.
صحيحٌ أنّنا لا نختار ما نتألّم به. فاختيار الألم ترفٌ ميتافيزيقيّ لم تعد البشريّة تملكه، أو هي ما لم تملكه على الإطلاق أصلاً. فمباغتة الألم، تلبسه بنا، حلوله علينا هي صلب كينونته. أمّا مَن يتحدّثون عن المتألّمين، فهم يترجمون الألم إلى واقعة للفهم، والتدخّل. أي يحوّلونه إلى واقعة للصّواب والخطأ. الألم أعقدُ من أن يُحلّ، وأتفه من يولى أهميّة.
المأساة حينما يتحوّل الألم إلى دعامة نرجسيّة للذات: لم يتألم أحد كما تألمت/ لم يتألموا مثلما تألمنا. هنا تنسحق الذات، وتهوي في مدارك من النرجسيّة المستلذّة بكونها ضحيّة. ومن ثمّ، كلّ الآلام الأخرى لا شيء، بكلّ عجرفةٍ. ومن هنا، ألم الغرب نرجسيّ: نحن نعرفُ ما تألم منه «الآخر» وما يتألم منه وما سيتألم به، ونحن من نملك «وحدنا» الترياق، لأنّنا خضنا الألم كلّه قروناً. ومن هنا الاستعمار/ النرجسيّة/ الترياق الغربيّ.
الألم النرجسيّ هذا لا ينتج أسئلة، هو يريد أحكاماً، ومحكومين. يريد أن يصدر أحكاماً طوال الوقت، وتدخلات، وكلّ عبث ممكن. لا يمكنه الفهم، أو محاولة التقمّص. فهو يماهي الذات بالكون، وبكلّ ما فيه. إنّه يضع الذات في مواجهة صفريّة: فلا أحد هناك سواي. أي لا ألم إلّا ألمي.
لقد قتلَ حبُّ المأساة الإنسان، والمشهديّة أيضاً قتلته. لا يمرّر ألماً، في حياته سوى بكمٍّ هائل من المأسويّة والمشهديّة اللتين تشعرانه أنه كائن مهمّ، أو أن ألمه فريد. والوضع هو هذا بالضبط: نحن نشعر بالألم ونضفي عليه مأساويّةً ما لأنّنا نشعر دائماً أنّنا فريدون، وهذا الوجع فريد واستثنائيّ كأن لم يمسس أحداً من قبلُ، ولذلك نشعر بنرجسيّة تجاه آلامنا أكثر من التي نشعرها تجاه إنجازاتنا (بالمعنى الإجرائيّ النجاحيّ). انظر؛ ما أتفهنا. لا نريد أن نقارن ألمنا بألم أحد، فذلك يجرح نرجسيّة الفرادة، فرادة الألم لدينا. يا لتفاهتنا.

-IV-

عن ألمٍ لا يجعلنا فريدين. فالفرادة الناتجة عن شعورنا النرجسيّ بالألم كفيلة بأن تجعلنا اضطهاديين. وإذا كانت هذه الفرادة تصنع السرديّة للذات، تلك الحكاية والتاريخ، فهي كفيلة أيضاً بأن تجعله يدهسَ ألمَ غيره تحت رافعة أنّ هناك ألماً أهمّ من ألم. لا سعادة بشريّة خارج الألم. إنّ الألم كينونيّ إلى حدّ يصعبُ تصديقه. فماذا إن لم نتألم. السّعادة وهمٌ لغويّ اخترعته البشريّة. واللغة هي وعدٌ بالسّعادة. لكن، ختاماً، يقول تشيزاري بافيزي في سيرته المذهلة «مهنة العيش»: «بينما نتألّم، نعتقد أن خارج معاناتنا توجد سعادة. وحين لا نعاني، نعرف أن
ليس هناك شيء اسمه سعادة، لذا نحسّ بحزن حتّى أكبر لأن ليس لنا ألمٌ نحتمله».