ليس بمقدور الجسد أن ينجو من شعوره الغامر بالاستسلام للحب، إذ ينتفض الجسد دون أن يعرف متى اشتعلت فيه مواضع الرغبة، واحتلت النشوة الأطراف والحواس واستقرت في القلب. إذا تمكّن الحب مني أتتبع عوارضه، أحوال الإمساك بمساراته كجرعة ماء أسرقها من نهرٍ جارٍ، إن شربتها لا أرتوي وإن تركتها يأكلني الظمأ. يبدو المرض كالحب تماماً: يخترق الجسد من دون استئذان، يسري في الداخل من دون أن يعرف أين سيستقرّ وأي الأعضاء ستكون بيته وملاذه. سمعت من طبيب مرّة بأن الفيروس إذا اخترق الجسد، يستهدف أضعف موضع فيه لأنه ببساطة يضمن مكاناً هشاً لن يقوى على المقاومة؛ الأمر أشبه بالاحتلال، بمعركة بقاء. هناك طرفان يريد أحدهما إثبات قوته واستحقاقه على الآخر. استغلال من نوع خاص يعيدنا إلى الشعور الأول في الحب: الاستسلام.
في الأيام الأولى لانتشار خبر ظهور فيروس جديد اسمه كورونا كنت مسافرة بالطائرة، عبرت حدود القاهرة وأصبحت معلّقة في الهواء مع أفكاري وهواجسي، لم يتمكن مني الذعر المبالغ لكنّي ضممت جسدي بقوة، انكمشت في معطفي وتمنيت أن أختفي بعيداً عن زحام الأجساد الجالسة حولي. لم أعرف أن رغبتي الملحّة في العزلة بعيداً عن الناس ستكون بعد شهور قليلة وضعاً إجبارياً بقرار حكومي حين باتت الأجساد حقولاً للألغام. لا أحد يعرف إن كان ذاك الجسد مصاباً أم معافى، أصبح الآخر خطراً لا يمكن الثقة فيه، وصرنا أمام مشهد جديد أعاد فيه الوباء رسم علاقتنا المرهونة بالمكان والزمان والآخر.

«شمس الصباح» لإدوارد هوبر (1952)

خلال أيام العزل المنزلي، يستسلم الجسد لهواجسه ولاحتمالية أن هذا الفيروس الخفي ربّما يحلّق فوقه. عندما ينفرد الإنسان بنفسه يعيد اكتشاف جسده من جديد، يجبره على التماهي مع فقاعة الوحدة والحماية خشية أن يصاب بما لا يرى. يختبر الجسد القَلِق مشاعره بمعزل عن الأجساد الأخرى، ينفرد بهشاشته، ينصت لحواسه، يصدقها مرة ويشكّ فيها مرة، الأمر لا يختلف كثيراً عن الشك الديكارتي الذي بُني على عدم اليقين بمصداقية الحواس التي تخدعنا بالضرورة، ربما أنفي يشم رائحة العطر فعلاً لكنه قرر ألا يشمها لأنه مصاب بالذعر من الفيروس المستحدث. في أمسيات أيام العزل التي حرمنا فيها من ممارسة الحياة خارج بيوتنا والتجول في الشوارع كانت اللوحات التشكيلية رفيقاً طيباً، إذ منحتني مؤانسة من نوع خاص. أنظر إلى أجساد حبيسة مثلي في لوحات كشخوص لوحات الأميركي إدوار هوبر الوحيدة، أولئك الذين يعيشون عزلة خاصة وعلى وجوههم استسلام تام للأمر.
لم أشعر بالغربة أمام لوحة هوبر «شمس الصباح»، إذ تسلّلت إليها وتسلّلت هي بدورها داخلي، وكأن جسد هذه المرأة يخصني بشكل ما: هذه الانكماشة، الضغطة الخفيفة على الساقين، الميل بالجذع إلى الأمام قليلاً. أعرف هذا الجسد الوحيد، وهذه الزرقة المنسابة من الشمس التي تغلف وحدتها، وتطبع جفاءَها على جدران الغرفة وعلى المرأة التي تبدو شاحبة ومنهكة. يوحي وضع جسدها بتوقف الزمن، هذه المرأة لم تغير جلستها، لم تتحرك ولم تفسد فراشها، هي أيضاً لا تنتظر شيئاً بل تعيش هذه اللحظة وهذه الوحدة التي تبدو كالأبد. إنها الوحدة ذاتها التي يختبرها مصابو كورونا في غرفهم المغلقة عندما يتورطون في مشهد قاسٍ: جسد وحيد يواجه العالم عن بعد. لا شيء ينتظره المصاب سوى مرور الوقت، والاستسلام لتكسير العظام، سخونة الجسد، تهاوي قدرته على المقاومة، الاستسلام يعني أن الجسد لم يعد قادراً على ممارسة مَهامه المعتادة، أصبح نسخة أكثر شحوباً وهشاشة، ووحدة.
تذكّرني اللوحة بمقولة فان غوخ «شيئان يحركان روحي: التحديق بالشمس، وفي الموت... أريد أن أسافر في النجوم وهذا البائس جسدي يعيقني».
على مدار أيام العزل الإجباري أصبحت رؤية لوحات هوبر طقساً أساسياً في يومي. كان جسدي بحاجة إلى أجساد أخرى تختبر الوحدة مثله، تلك المرأة في اللوحة ليست مصابة بفيروس كورونا لكنّ العلة تبدو على ملامحها الباهتة وكأنها مُهيّأة تماماً لاستقبال هذا الفيروس اللعين. الأمر ينطوي أحياناً على قابلية الجسد للترحيب بأعداء جدد يمرون عليه ليزرعوا ثمارهم الفاسدة، وكأن الجسد يعيد رسم علاقته بكينونته.
تقول سوزان سونتاغ إن المرض هو الجانب المظلم من الحياة، الأمر أشبه بالوقوف على الجهة الأخرى من حياتنا اليومية الأكثر غموضاً وقبحاً. تجوّلت ذاكرتي بين دوائر أصدقائي، أغلبهم أصيبوا بالفيروس، ولكل جسد فيهم حكايته الخاصة والمختلفة تماماً عن بقية الأجساد. تحدّثت مع صديقتي الشاعرة سارة عابدين، استدعيت معها فترة اشتباهها بالإصابة بالفيروس. علاقة سارة بجسدها المصاب بمرض مناعي تجعل مشاعرها القَلِقة مضاعفة، وأحياناً تنفلت الهشاشة، كما حين حدّثتني عن جسدها في أيام المرض، قائلة:
«لا يفارقني القلق أبداً. أصحو وأنام وهو رفيقي الذي لم أختره. يعاندني جسدي دائماً محاولاً ترسيخ استقلاليته عني. يقول لي «أنا أملكك يا شاطرة... أنتِ محبوسة في داخلي»، لا أعرف من منا محبوس داخل الآخر، لكنني أعرف أن جسدي معطوب، مثل تفاحة تبدو بهيّة من الخارج لكنّ الدود ينغل في داخلها، يلتهمها على مهلٍ متيقناً من عدم قدرتها على المقاومة».
يستوقفني وصف سارة لجسدها بأنه معطوب، شعور بأن المرض يُفسد الجسد، يستبدل طزاجته بتلف يحمل تاريخاً مؤقتاً لانتهاء صلاحيته. في واحدة من رسائل فان غوخ لأخيه ثيو كتب له «إنني أتعفّن مللاً لولا ريشتي وألواني هذه، أعيد بها خلق الأشياء من جديد. كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن..»، إنه شعور قاسٍ يلتصق بالجسد المصاب وكأنه لم يعد صالحاً، وربما يصبغ قسوته تلك على شعور المصاب بعدم أحقيته بهذا الجسد الذي بات يخص المرض أكثر منه. وكأن الجسد في نهاية الرحلة يحصد خسائر المارة عليه.
في متابعتنا البرامج الإخبارية لمعرفة مسارات انتشار جدري القرود عالمياً، يختلف المشهد قليلاً عن وباء كورونا، فالجدري يبدو أسهل في اكتشافه، لا يضعنا أمام دوائر الشك بأجساد الآخرين المصابة، فالعلامات ظاهرة على الجسد الضحية. إما أن يكون الشخص مصاباً وإما لا يكون، ما من مجال للتكهن والتخمين أو مساحة للشك.
«جدري القرود»، يحمل الاسم قدراً لا بأس به من السخرية، ويفتح باباً جديداً للتنمر على هذا المرض الذي انتقل إلى الإنسان من القرود، موطنه الأصلي أفريقيا، وعوارضه تطبع على الجلد علامات قبح بادية. إنها معركة مختلفة تماماً عن الفيروسات الخفية داخل الجسد، فهي لا تترك الجسد في عزلة فحسب، بل يغيّر القبح ملامح الجسد المصاب، جاعلاً من هذا المرض وصمةً، إذ تشتبك علامات جدري القرود مع مفهومنا عن الجمال والقبح، البشرة الصافية المشرقة في مقابل البشرة الشاحبة المتعثرة في بثورها وندوبها وتجاعيدها. إن إلقاء نظرة على صور الأجساد المصابة بالجدري، يجعلنا نتخيّل معاناة المصابين به يومياً مع استقباح أجسادهم. الأمر لا ينطوي على خوف من العدوى فحسب، بل يصاحبه شعور جارح بالاشمئزاز والرفض، وفي لحظة ينفلت الجسد المصاب من صورته الطبيعية إلى صورة جديدة بات عليه أن يخفيها عن الأنظار. هذا الجسد لا يخصّني، فالأمر ينطوي عندئذ على علاقة جديدة ملتبسة ما بين الجسد وصورته. ينشد البشر الجمال لكنّ أحداً لا ينشد القبح ولا يُفضّل أحد أحدب نوتردام على الأمير الوسيم.
تختلف معركة الجسد المصاب بكورونا إذاً عن الآخر المصاب بجدري القرود؛ كلاهما غارقان في العزلة تجنباً للعدوى، لكنّ الأخير يعاني قبحاً ونفوراً يعيدان صبغ علاقة المريض بجسده، بطبقة الجلد التي تكسو عظامه. تطفو على السطح أسئلة تتعلق بعلاقة المصاب بجسده، هل يرضى عنه؟ وإلى أي مدى يتقبله؟ الأمر لم يعد يخصّ المرض فقط، بل الجسد والذات وصورتهما معاً.
الجسد هو وعاء الذات، والجسد المصاب بات وعاءً يحوي اضطراباً في علاقة الفرد بذاته وكينونته، فتتكشّف حدود علاقتنا بأجسادنا، هي ليست وسيلتنا للانغماس في الحياة فقط بقدر ما هي كياننا المستقل وذاتنا التي نعرف بها أنفسنا للعالم. يختبر الجسد المصاب حالة الحصار، الوهن، الاستسلام للمرض وهواجسه فيستسلم أمام صورته الأكثر ضعفاً، يحاول فهمها والتماهي معها، بل ويعيد تعريف ذاته والتأقلم معها وفق هذا الظرف الطارئ. لا يصبح الجسد هنا ملاذاً آمناً بل ثقلاً لا يُحتمل، أو ربما مكاناً مؤقتاً تحت وطأة حصار المرض، وبالتبعية تصبح الذات عبئاً فتتسع دوائر التيه والكآبة على المصاب الذي بات، بين عشية وضحاها، في ورطة مع جسده المخترق من فيروسات لا يمكنه حتى رؤيتها بالعين.
يطرح الجسد العليل أسئلة لا نهائية يشتبك فيها الألم بالمقاومة؛ بإمكان المرض أن يستعين بالاستعارات اللغوية ليبرر استيطانه في أجساد المصابين مخلّفاً خسائرَ حتمية وندوباً، وعلى الجسد أن يختار طريقته الخاصة في مقاومة عدوه المتآمر. أسرح بخيالي بعيداً وأتخيل كل الأجساد العليلة التي تسهر الليل في وحدة قاسية وأتذكر قصيدة لمحمود درويش يقول فيها: «لا سرّ في جسدي أمام الليل إلا ما انتظرت وما خسرت».