«رجل المسرح: أريد أن أفهم ما حدث منذ أكثر من ألفي عام في مدينة إفسوس.- هيروستراتوس: إنّها فكرة سخيفة. ما الذي يدفع المرء كي يجهد عقله بما حدث في الزمن البعيد؟ أليس لديك ما يكفي من قضاياك الخاصّة؟
- رجل المسرح: هناك قضايا أبدية تهمّ البشر، ولكي نفهمها فلا بأس من تذكّر ما حدث بالأمس وما حدث منذ عهد قريب أو ما حدث في الأزمان البعيدة.
-هيروستراتوس: ومع ذلك، فليس من اللائق التدخّل في أحداث بعيدة كل هذا البعد.
- رجل المسرح: لسوء الحظ لا يمكنني التدخّل، سأتابع فقط تلك الأحداث من باب منطق حدوثها.. أريد أن أفهم.»- مسرحية انسوا هيروستراتوس، غريغوري غورين.

التاريخ لا يُعيد نفسه، ولا يمكن له أن يُعيد نفسه، بل نحن ما زلنا هناك واقفين، متمترسين خلف الماضي الذي جعلناه بمثابة محكمة استئناف لنزاعات الحاضر والتباساته. الفكرة هي أن معظم الشعوب والمجتمعات، الماضي عندها من حيث الأساس، هو النمط المطروح للحاضر، وسيكون من الشيّق على هذا المستوى الافتراض بأن كلّ جيل يعيد إنتاج سابقه قدر الإمكان ويعتبر نفسه متخلّفاً عنه بقدر فشله في هذا المسعى. التاريخ إذن هو المادّة الخام للأيديولوجيات القومية والأصولية والإثنية، لذا هو في نهاية المطاف العنصر الأساسي الذي تستطيع الشعوب من خلاله تحديد زمنها والاتّكاء عليه وخلق مبررات وجودها، لأنّ من طبيعة الماضي أنه يُشرعِن ويقدّم أوراقاً ثبوتيّةً للشعوب، وإنْ لم يكن هناك ماضٍ مناسب فإنّ بالإمكان دائماً اختراعه.

(رسم: هاشم رسلان)

إنه لمن سوء حظّ المجتمعات المتعدّدة أن تاريخها له أكثر من ماضٍ، فكلّ جماعة تنحو صوب نحت ماض خاصّ بها، يشبه ما تدّعيه من بطولات، ونجاةٍ، وأسبقية، فلا غرابة أنْ تبدأ عملية التجاذب والتنافر بين تاريخين اجتماعيَّين، جماعة تاريخية تعتبر أنّها ذات قبعات بيضاء تواجه ذوي القبعات السوداء، وجماعة تاريخية أخرى تدّعي العكس. وعند هذا الحدّ تبدأ الحرب ثمّ التسويات ثمّ اللاحل ثمّ الحرب مرة أخرى ولكن بأشكال معاصرة لا تقطع الصلة مع تقاليدها.
المجتمع اللبناني الحالي بتعدّده وتنوّعه، خاب أمله بماضيه، ومن المؤكّد أنّه خائب الأمل بحاضره من حيث الأساس، وغير واثق من مستقبله. كل هذه الخيبات لا بدّ لها من أن تنتج حاجة شديدة الخطورة تخضع لوضع نفسي معيّن يتطلّب ضرورة التصالح مع الذات وإلقاء اللوم على الآخر، والآخر دوماً هو الذي له سردية تاريخية خاصة أعطت شرعية لماضيه كما تشرع حاضره. المجتمعات غير المتصالحة مع ذاتها ومع الآخرين لا تملك تاريخاً «غرينتشيّ الهوي»، فليس ثمّة من حيادية في الزمان لديها، لذا هي مجتمعات هشّة ويكفي «لساعة» واحدة من الزمان أنْ تهشّمها، ذلك أنّ النفوس الجماعية بجيلها الحالي، ما زالت محمّلة بكلّ الثواني والدقائق والقضايا التي عاشها الجيلُ السابق، فما بالك لو كان هؤلاء السابقون هم من عاش وشارك في حربٍ أهليةٍ قذرة.
ما نقوله، أن «الزمكان اللبناني»، هذا الفيزياء السوسيو-تاريخي، الذي شطرَ الزمان في مساحة لا تتجاوز العشرة آلاف كلم مربع، إلى زمنين ينتميان في جوهرهما لانشطارٍ مكانيٍّ كان قد شظّى بيروت إلى «بيروتين»، له معنى وسندٌ سورياليّ. فالأمر أشبه هنا، وكأنّه حفرٌ وتنزيل، بلوحة «الساعات/ إصرار الذاكرة» الشهيرة للرسّام السريالي الإسباني دالي. تلك اللوحة التي تكون فيها الساعات في حالة ارتخاء وذوبان في مكانٍ سرابيٍّ «لا حسّ فيه ولا ونس». إنّ أكثر المعاني تفسيراً وإقناعاً لهذا المشهد السريالي، هو المعنى الذي ركّز على قدرة دالي في عرض مفهوم الزمن كشيء جديد ونسبيّ ومعقّد، حاضرٌ وغائب لأنّه أكثر مرونة من أنْ نقبضه، لذلك هو زمن غير ثابت ولا يمكن تتبّعه من خلال ساعات اليد والحائط. ما جرى في لبنان من «أزمة سباق وقتيّ» في ميدان «الزمان»، ملخّصه أن «إصرار الذاكرة» على البقاء حيّة لا يضاهيه بين اللبنانيين إصرارٌ آخر، وبوضوح نحن جيل لديه نموذج طائفي في أذهاننا حول الطريقة التي تندلع بها الصراعات والخلافات بين أبناء المجتمع أو من المحتمل أنْ تندلع به، يقوم على الجمع بين التذكّر والمعلومات المتاحة عن الماضي. لذلك نحن نقرأ الماضي لنعيده لا لنستشرف منه، ولذا تكون قراءتنا له قراءة كرونولوجية غير موضوعية مرتبطة بأحداث معينة وظروف محددة، ولم تكن يوماً قراءة تنحو صوب مسارٍ واتجاهٍ عام يؤطّر كل المكونات ضمن إطار شامل للمواطنة، الأمر الذي يجعلنا على الدوام عاجزين عن أن نطلب من الماضي إجابات مباشرة على أسئلة لم تُطرحْ عليه أو لم يُجِبْ عنها حينها، رغم أنّنا نستطيع أن نُعمل ذكاءنا لقراءة إجابات غير مباشرة في ما خلّفه وراءه. إن موضوع «الساعة» هو إجابة واحدة فقط على العديد من الأسئلة العالقة في ذكرياتنا التي تجهد بإصرارٍ حادٍّ على أنْ تبقى حاضرةً في لا وعينا الجمعي. ربما أصبح من الضروري الاعتبار أن الذكرى الجماعية تعمل عملَ رابطة الدم والدين في المفهوم المعاصر للعصبيّة الطائفيّة. ذلك أنّه كان ملفتاً تكتّل مكوّن طائفي متعدّد الاتجاهات السياسيّة المتنافسة بشدّة مع بعضها البعض، ضدّ مكوّن طائفيٍّ آخر ينتمي بدوره لطرفَي المنافسة.
الماضي من حيث الجوهر هو واقع تقادم عليه الزمن مثلما أن الحاضر هو واقع يتقادم، أمام مستقبلٍ يمثّل زمنَ واقعه، يصبح الزمن والحالة هذه حالة مطلقة غير محدّدة التعاقب وغير مضبوطة على إيقاعات القياس. بينما الوقت هو عملية تنظيم محدّدة وكونيّة للزمن، هو هذه الأربعُ والعشرون ساعةً التي تتكرّر علينا منذ الأزل، ولأنّنا يا أخي كذلك، أي لأننا لا نملك «خمساً وعشرين ساعة» في يومنا تحول دوننا ودون خلع الأقنعة، نعوّض ذلك «بمغالطة الزمن» مثلما عوّضه السابقون بـ «المغالطات التاريخية»، ولكن وللمفارقة، ستأتي يوماً ما الساعة الخامسة والعشرون، «الساعة» التي سنندم فيها يوم لا ينفع الندم. لقد أشار الروائي الروماني العبقري قسطنطين جيورجيو في عنوان رائعته «الساعة الخامسة والعشرون» لا إلى تلك الساعة التي تأتي متأخّرةً فحسب، بل كذلك إلى تلك التي لا تحين إلا بعد فوات الأوان.
في روايتها «بيت بلا جذور»، تسرد لنا الروائية اللبنانية اندريه شديد زمنين من تاريخ لبنان ضمن قالب متقطّع من الأحداث، فحيناً تضعك في فترة الثلاثينيات المزدهرة، وأحياناً في الحرب الأهلية اللبنانية، تجبرك بأسلوبها الواعي هذا على إجراء المقارنات وتصفّح التاريخ، التاريخ الذي له الحق أن يُعرض كما هو بكامل حقائقه الموضوعية. ولكن ما زالت حاضرةً ملاحظةُ إريك هوبزوم في محاضرته «خارج التاريخ/ داخل التاريخ» في جامعة بودابست عام 1993، التي تعتبر أن «التاريخ يسبّب الأذى لأن الروائيين اعتمدوه لنسج حبكاتهم بدلاً من ابتكارها طامسين بذلك الحدود بين الحقيقة التاريخية والخيال». الملفت في عمل شديد هو اختلاف الأجيال بين جيل فترة الثلاثينيات وجيل فترة السبعينيات، أي بين جيل لبنان السعيد وبين جيل لبنان الممزّق، الأمر الذي يؤكد أن الآفة البنيوية في المجتمعات المتعددة هي القدرة لا على إنهاء النزاعات بل على طمسِها وفيضها من حينٍ لآخر كلّما أوشك الميثاق المبرم على الاهتزاز وفقدان التوازن. لذا كان يكفي لساعةٍ واحدةٍ بدقائقها الستين أن تكون دقيقةً جداً كالحقيقة لإزالة الأقنعة. ليس لأن الوقت من ذهب، بل لأن علينا أن نصدّق الممثلة دارينا الجندي في فيلم «أشباح بيروت» للمخرج غسان سلهب حينما تعترف «بأن الحرب بالنسبة إلي لم تنتهِ»، وهي لم تنتهِ في كلّ واحد منّا. المسألة هي أنّ الماضي أثناء عملية استرجاعه هو فعل انتقائيّ بالصميم، وهو ليس انتقائيّاً إلا لأنّنا نحتاجُ لواقعنا شرعيّةً ما، لذا نحن على الدوام في زمنٍ ماضٍ «شبحيّ» يتجسّد «هنا والآن» نتيجة التذكّر المصاحب للواقع. يقول هوبزبوم: «إن ما يُعرَف بأنّه الماضي هو انتقاء محدّد من لا نهائية ما يُذكر أو ما يمكن تذكّره» وهنا دور الخيال التاريخي، أو ما يسمّيه هوركهايمر بالأساطير القومية التي تؤسّس النصّ الذي تتفرّع منه لاحقاً كلّ قراءات فعل التذكّر بكل مراحله. من هذه الفرضية يمكن أن نقرأ الوقت وما يمارسه، على أنه عملية تحريفية آنية للزمن اللانهائي، فإذا كانتِ الحربُ لم تنتهِ فهي إذن -والحالة هذه- لن تنتهي أبداً، كل ما في الأمر أن هناك فواصل في الماضي تسود أحياناً الحاضر عندما يحتاج «وقت التسويات» به إلى استقرارٍ وسلمٍ معيّن. والزمنُ كالحرب التي لن تنتهي أبداً بالنسبة إلينا، والوقتُ كالسلم الذي لن ننعمَ به إلى الأبد. هل كان عبثاً أن يُضبطَ اللغمُ على قياس الوقتِ لا على معادلة الزمن؟
من العبث وغير المجدي أنْ نناصرَ الوقتَ ضد الزمن، لأنّه إذا كان صحيحاً أن الساعة المعطّلة تعطي الوقت صحيحاً مرّتين في اليوم، فإن الزمن الذي يتعطّل يخرجك من التاريخ. ليس مهماً أيُّ وقتٍ يسود الآن، لأن الرهان على الزمن، ومن يملك الزمن هو القادر على تحريك التاريخ. والتحولات الثورية زمنية بطبعها.
ولكن، إلى أن ندرك ذلك، فلنقرأ هذا الحوار من مسرحية الكوميديا الرومانية للكاتب والمسرحي الروسي ليونيد زورين:
«لوليّا: يا كلوديوس، ليس عمر الرجل هو المهمّ بالنسبة إلى المرأة الرومانية، إنّما زمنُه، إنّها في حاجة إلى معرفة ما إذا كان زمنه قد ولّى أم لا.
كلوديوس: زمني إمّا ولّى وإمّا أنّه لم يحنْ بعد.
لوليّا: هذا فرقٌ كبير يا صديقي، ويحتاجُ إلى تحديد في جوهر الأمر، لأنّه الفرق الذي يحدّد قيمتَك».