نقرأ في الدليل البيبليوغرافي للحرب الأهلية في لبنان 572 عنواناً. تتوزّع هذه العناوين بين مقالات وكتب (بحوث ودراسات ومذكّرات وشعر ورواية ورسوم ووثائق ويوميات) تمكّن الباحثان ليندا صدقة ونواف سلام من الحصول عليها أو رصدها حتى ثمانينيات القرن الماضي. بين هذا العدد الضخم من العناوين، لا نعثر على أيّ دراسة أو بحث أو مقالة عن أغنية الحرب الأهليّة اللبنانيّة، رغم أنها - أي الأغنية - برزت إذّاك كوثيقة تاريخيّة، وموقف، وصوت، ورأي، يوفّق بين الإنسانيّ والفنّي والسياسيّ، وبرزت كذلك في مكانٍ آخر كأداة تحريض، ووسيلة تعبئة، دون إغفال إشكاليّاتها الطائفية والمناطقية.
(تصميم: إليز زخور)

أن يقرّر مغنٍّ إقامة حفلة في مكانٍ ما من العالم، يعني - في الغالب - أنه سوف يغنّي فقط لإمتاع الناس. أما في جغرافية لبنان، لا سيما خلال أهوال الحرب، فقرارٌ مثل هذا لا ينطوي على مجازفة ومخاطرة وحسب، بل ينسحب كذلك - في الغالب - على تقرير انتماء المغنّي نفسه، وانتسابه لطائفة أو حزبٍ أو مجموعة. لذا فللأغنية، في لبنان تحديداً، وفي ذلك الزمن، وجهان: وجهها الفنّي الإنسانيّ الذي يريد أن يشمل لبنان كلّه، ووجهها الثاني الذي يشبه الحرب، ويريد أن يكون جزءاً منها. لا تقوم هذه المقالة على أنها جزء من صوابية سياسية، ولا على أنها محاولة تأريخ أو توثيق، بل هي في نهاية الأمر قراءة، ضمن قراءات كثيرة، عن كيف يمكن أن يمتزج ضدّان: القبح والجمال. فالأغنية في نهاية المطاف تنطوي على جماليّة وشروطٍ فنيّة، أما ظرفها التاريخي، فهو أشدّ مراحل لبنان الزمنيّة قبحاً. والأهم أنّ المقالة ليست حكم قيمة، فإنّ المغنّي آخر الأمر إنسان، له موقفه المتبدّل، المحكوم بضرورة الكرب، ومن ثم ما بعد الكرب، واضطراره أن يدلو بدلوه، ولا يقوم هذا الكلام على أنه محاكمة أيضاً. لقد بدّل سارتر، فيلسوف زمنه، آراءه مرات عدّة، بل بالأحرى يمكن القول إنه لم يكن له رأي. إلى حدِّ أنّ أعزّ أصدقائه مثل ألبير كامو ضجر من ذلك فابتعد عنه، وكذلك رجلٌ مثل جان جينيه، الخارج من صلب العوالم الحقيقيّة المحكومة بالجريمة والسرقات، ابتعد عن سارتر آخر سنوات حياته، رغم أنّ الأخير كتب عنه كتاباً أسماه «جان جينيه القدّيس الشهيد». نجيء على ذكر هذا المثال لاقتراب تنظيرات سارتر الكثيرة حول الأدب - بالتالي الفن - الملتزم، وعلاقته بشرطه التاريخي، من الظرف الزمني للبنان في فترة الحرب. ما يمكّننا من القول إنّ مغنٍّ ما، غنّى عن جزءٍ، لا كل، من لبنان على أنه «قدّيس شهيد»، سوف ينكره هذا القدّيس الشهيد، بعد أن يستعيد وعيه، ويرجع كلّاً. وعلى العموم، ليس هذا المكان المناسب لمثل هذه المقاربات، ولا لكلّ ما ذُكِر سابقاً، إنما اقتضى ذكره على سبيل التوضيح لا غير.
ما يهمّنا أنّ الأغنية، كانت حينذاك أيضاً، منغرسة، كما يجيء في بعض الحكايات، أو يُعرف اليوم، في التجمع السياسيّ والواقع الفجائعيّ للبنان، وأكثر من ذلك يمكن أن نقول إنها كانت قراءة في الفسيفساء اللبنانيّة، ودعوة إلى حفظ هويّتها، وتجسيداً لمعاناة وشرخ هذه الهُويّة وانطفائها أو تذويبها. لذا، كانت على الطرف الآخر، في بعض الأحيان، فعلَ مقاومة من نوعٍ خاص، هو أكبر الممكن، وأعظم وأفضل المبذول، وحيلة وحيدة لمَن يريد أن يصرخ، أو يعترض، أو يقرّ بموقفه ممّا يحدث.
الجدير بالذكر أيضاً، أنّه ليس ثمة مجال هنا للتوثيق أو لتأريخ النشاط الغنائي الموسيقي اللبناني زمن الحرب، أو لتبيان الفرق بين الأغنية السياسية والأغنية الوطنية. يكفي أن نشير إلى تعريف عبيدو باشا للأغنية السياسية في كتابه «موت مدير مسرح، ذاكرة الأغنية السياسية»: «هناك فواصل كبيرة وعميقة نفسية وعملية غلبت تسمية الأغنية السياسية على أي تسمية أخرى. إننا أمام أغنية محاربة تريد الاستيلاء على النظام المدني لكي يضحي نظامها. إنها ابنة جماعة منظمة تهدد النظام القائم كما تهدد حراسه. إنها ابنة حرب داخلية. لم يفتها وهي تمارس هذا الدور أن تبحث عن التميز والحداثة والقوة والنوعية والضخامة».
في الذكرى الـ 48 للحرب، ثمّة فراغ في حاضر الأغنية اللبنانية اليوم، إذ يستند المتظاهرون والثوريون والرافضون للواقع السياسي واللبناني العام الجدد، بما يشبه استحضار ذاكرة ممّن عايشوا فترة الحرب، أو وفقاً للمرويّات والسرديّات للجيل الذي أسعفته الذاكرة من الأهوال، يستعيدون أغاني تلك المأساة، ويردّدونها. خرجت الأغاني من إطار قولبتها أو توجهها الجغرافي السياسي والأهلي اللبناني، فصارت لبنانية عامة. ففي طرابلس وصيدا وصور والجية وبنت جبيل وجل الديب والزوق وجبيل وجهات لبنان الأربع جنوباً وشمالاً وشرقاً وغرباً، تتردّد الأغاني، التي كانت محصورة من قبل في جهةٍ واحدة. ما يُبرزها - أي الأغنية - بعيداً عن حيّزها الأرشيفي أو النوستالجي، إنما بوصفها ما تزال قابلة للتداول، بعد قرابة خمسة عقود من ظهورها. وبالتالي تخرج عن دورها كوثيقة تاريخيّة محصورة في زمن الحرب، إلى أداة ثوريّة في العقد الثاني من الألفية الثالثة، وبذلك يتأكّد أنّ حالة الوعي، أو الأثر الوجداني ومن ثم السياسي الذي يمكن أن تُحدثه، ما تزال قادرة عليه حتى اليوم.
إنّ تمظهرات الحرب اللبنانية وكذلك الموقف من هذه الحرب واضح في النشاط الغنائي الذي برز إذّاك. نشر أسامة فوزي مقالة عام 1977 بعنوان «الأغنية السياسية» يتحدث فيها عن مارسيل خليفة وفيروز و«فرخ البط العوام» أي زياد، والبرنامج الإذاعي «بعدنا طيبين... قولوا الله» الذي يعتمد لازمة «اختلط الحابل بالنابل»، وكذلك عن فرقة الأرض وخالد الهبر. إنّ الشهادة التي يوردها فوزي في مطلع مقالته هي التي تعنينا لأنها توضّح دور الأغنية زمن الحرب: «رغم أن الحرب في لبنان قد أتت على الأخضر واليابس، ورغم أنه لا يوجد بيت فيها إلا وكان الحزن قاسمه المشترك؛ لنقطة دم نزفت من أحد سكانه، أو لجدار سقط على من فيه، أو لقذيفة طائشة تركت أهل البيت في العراء، ورغم أن المتاريس وإطلاق النيران والخطف والقنص ما زالت تشكل أهم ملامح الحياة اليومية في لبنان، وبيروت على وجه الخصوص، رغم كل ذلك، فإن بيروت ما زالت هي بيروت التي نعرفها، تتدفق حيوية ونشاطاً، وتتحدى الألم والحزن، بالقصيدة والأغنية والنكتة».
قبل الحرب الأهلية كان لبنان «أخضر» في الأغنية، كان: جبالاً وتلالاً وغيوماً وقمراً. وكان: «جنات عَ مد النظر»، و«جنة أمانينا». أما خلال الحرب، صارت أرض لبنان «حمرا ومكتوبة بالنار». صار لبنان «مش لبنان»، وصار «أناديكم» أحمد قعبور (الرافض لمصطلح الأغنية السياسية) والذي كتب له عبيدو باشا أغانٍ عدّة. إنّ القبض على لبنان كلّه خلال الحرب الأهليّة ضربٌ من خيال، وكذلك القبض على كلّ أغانيه ومغنّيه عملٌ مستحيل إلا لمؤرخ عاش وعايش وشارك. إنّ الإشكالات كثيرة، والتنظيرات أيضاً على قدر الإشكالات. تذهب فاطمة عبد الله، مثلاً، في مقالة لها في جريدة «النهار» إلى أنّ «الباحث في البعد البسيكولوجي للأغنية «الوطنية» في خضمّ المعارك، سيجدها دعوةً إلى موقفٍ لا حيادي حيال ما يجري، ومبرراً لإطالة عُمر الأزمة». لذا تبحث في أغنيات اليمين الممثل بالأحزاب المسيحية واليسار الممثل بالحركة الوطنية، عن دورٍ في حضّ الأفرقاء على استمرار القتل. مشيرةً إلى أنّ مارسيل خليفة، إلياس الرحباني، خالد الهبر، باسكال صقر، سامي حواط، إيلي شويري وغيرهم، قدّموا أغنياتٍ رسمت شكوكاً حول طبيعتها: «هل المراد منها وَقْع المدفع على «الأعداء» وتكريس البُغض ضمن البيت الواحد؟». من أجل ذلك تسألهم فرداً فرداً للإجابة على هذا الادّعاء ويتّفقون على أنهم أرادوا «لبنان الواحد» لا «كبش محرقة».
يبرز اتّهام فاطمة عبد الله لأولئك المغنّين مجدداً، للتدليل على ما جاء في البداية، أنّ قرار الغناء زمن الحرب الأهلية، لم يكن ينطوي على مخاطرة في آنيته الزمنية وحسب، بل بعد عشرات الأعوام. لأنّ معايير العصر اليوم تدخل في ميوعة شديدة، من دون إيلاء الاهتمام بالظرف والشرط التاريخيّ السابق. بالتالي يصبح فناناً يرى نفسه «مناضلاً»، «متورطاً» بالدعوة إلى الموت. ربّما فيروز وحدها التي تنجو من ذلك، حين وقفت على مسرح الأولمبياد في باريس عام 1979، وغنّت: «بحبك يا لبنان يا وطني بحبك»، مواسيةً ومطبطبة على الكتف. وكذلك ينجو، مَن كان موقفه آنذاك ألّا يتّخذ موقفاً، وأن يعاين بصمتٍ وبحسرة كلّ ما يحدث، بلا «تورّط». إنّ التحوّلات والتبدّلات التي طرأت على لبنان بين ما قبل الحرب وما بعدها، تشبه إلى حدٍّ كبير تحوّلات أوفيد، وتجعلنا اليوم نقرأ ما حدث بما يشبه قراءتنا «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» للقزويني، بدهشة ما بعد الكرب، وبالتروما الجماعيّة التي لا تأخذ مَن عاش ذلك الزمن فقط، بل كلّ من جاء بعد ذلك.