التاريخ ما بين التوسّم والتوهّم«وأما الأخبار التي بأيدينا الآن، فإنما نتّبع فيها غالب الظن، لا العلم المحقّق»، هذا ما أرساه ابن النفيس في كتابه «المختصر في علم أصول الحديث» كقاعدة لتتبّع الأخبار والروايات. قاعدة تؤكد أن الخبر الواحد قد يحتمل أوجهاً عدّة، وأن للرواية الواحدة العديد من الرواة، وأننا نتتبّع فيها الشك والظنية لا التحقيق والعلمية.
أما في دراسة علم التاريخ، وعملية التأريخ، فإننا نتّبع العلم المحقّق، ففي مناهج البحث العلمي ثمة المنهج الاستردادي، والذي يُعنى بدراسة التاريخ، ويخضع للأدوات العلمية النقدية التي تبدأ بجمع الأدلة التاريخية المتصلة بالحدث موضوع الدراسة والتي تُعرف بالمصادر، وتتنوّع بين آثار ونقوش، ومخلّفات خطية، وروايات. ثم يأتي نقد تلك المصادر بحسب قوتها وقيمتها، فالأثر أقوى من الرواية، والكتابات المعاصرة للحدث أقوى من الكتابات اللاحقة عليه.
إن الوقائع التاريخية حدثت بالفعل مرّة واحدة فقط وإلى الأبد، فعلم التاريخ يقوم على الزمان، وخاصيّة الزمان الأساسية تتمثّل في عدم قابليته للإعادة، وكما يخبرنا الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه «مناهج البحث العلمي» أن محاولة استعادة التجارب التاريخية كما حدثت هي نوع من التخيل، ولكن هذا التخيل ليس تخيلاً مبتدعاً، إنما يجب أن يقوم على أساس ما خلقته الأحداث الماضية من آثار، ذلك أن ما كان لا يمكن أن يستعاد في أي حال من الأحوال. يُمكن فقط لما كان أن يُستعاد نظرياً بنوعٍ من التركيب انطلاقاً مما خلّفه من وقائع يعمل الذهن فيها أحياناً والخيال المبتدع أحياناً أخرى، على أساس نوع من الوجدان هو ما يسميه المؤرّخ والفيلسوف الألماني شبينغلر باسم التوسّم.
ولكن أن يقوم هذا التخيّل على الابتداع الخيالي وحده استناداً إلى أضعف المصادر وأقلّها خضوعاً لعملية النقد العلمي، وطرحها كوجهة نظر أحادية المنظور إلى التاريخ، فهذا ما يمكن أن ندعوه بالتوهّم.

إعلان كليوباترا ملكة سوداء
في الأيام الماضية أصدرت منصّة «نتفليكس» الترفيهية الإعلان الرسمي للسلسلة الوثائقية الجديدة الملكة كليوباترا من إنتاج جادا بينيكت سميث ومن بطولة الممثلة أديل جيمس التي تؤدّي دور الملكة كليوباترا، ومن المقرر عرض السلسلة في العاشر من أيار (مايو) الحالي. منذ إطلاقه، قوبل الإعلان بردود فعل معارضة بين روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، من حيث اختيار الممثلين ذوي البشرة السوداء لأدوار المصريين، واختيار الممثلة الرئيسية أديل جيمس لتأدية دور كليوباترا مع موجات استياء تجاه المنتجة جادا بينيكت سميث، كما طاول الرفض بعض الجمل التي ظهرت في الإعلان التشويقي مثل: «لا يهمني ماذا أخبروك في المدرسة، كليوباترا كانت سوداء».
تجاوزت ردود الأفعال المنتقدة مصر فحسب، إذ ظهرت ردود فعل مماثلة من اليونان التي دافعت عن الأصل الإغريقي لملكة مصر البطلمية كليوباترا السابعة، ووصل الأمر إلى القيام بحملة جمع توقيعات على موقع Change تُطالب بمنع العرض الوثائقي لتزييفه الحقائق التاريخية، والتي تجاوزت عشرات الآلاف من التوقيعات قبل أن يقوم الموقع بإلغاء العريضة وحذفها من على الموقع.

التواريخ ما بين الأعمال الدرامية والوثائقية
لا يمكننا أن نتناول الأعمال السينمائية أو الدرامية كمنتج تاريخي أو توثيقي، مع إغفال الجانب الدرامي للعمل وحيثيات إنتاج تلك الدراما ورمزيتها، حتى لا نسقط في فخ الفهم الخاطئ للتاريخ، ولكنّ الأمر يختلف مع الأعمال الوثائقية، فهي أعمال بصريّة متخصّصة تقدم محتوى تثقيفياً، سواء أكان عملياً أم تاريخياً أم أثرياً، وفيها لا يمكننا إغفال العلم أو إهدار قيمته، وإلا أصبح العمل يعتمد على الأهواء أو على التصوّرات الزائفة.
فإذا كان العمل المثير للجدل فيلماً أو مسلسلاً درامياً عن كليوباترا السابعة، وتم تقديم الشخصية بصورة مغايرة لصورتها التاريخية التي حفظتها المصادر التاريخية، كأن تكون سمراء البشرة، أو مثلية الجنس، أو حتى ذكراً متخفّياً وراء قناع جنسي أنثوي، فلا يجوز أخذ العمل على أنه مرجع تاريخي وتوجيه النقد العلمي المتزمّت إليه، وإنما يمكننا اللجوء إلى التأويل لفهم المسارات الدرامية الإبداعية لصناع العمل.
إن ما أثاره الإعلان الترويجي لمسلسل الملكة كليوباترا كان منطقاً أحادي الرؤية يقوم على حذف تعددّية الطرح، متّخذاً من التشكيك مبدأ له: عليك أن تُنكر كل ما تعلّمته سابقاً، ثم يرميك بحقيقة مطلقة واحدة تستمد مرجعيتها ومصدرها الوحيد من صنّاع العمل وخيالهم وهي أن كليوباترا كانت مصرية سوداء.

كليوباترا السابعة ثيا فيلوباتور المحبة لأبيها
لُقّبت الملكة كليوباترا السابعة، التي حكمت بين عامي 51 و30 قبل الميلاد بالمُحِبّة لأبيها، والذي كان بطليموس الثاني عشر الملقّب من قبل السكندريين بالزمّار لغرامه بالعزف على آلة المزمار. أوصى بطليموس الثاني قبل وفاته ابنته الكبرى كليوباترا السابعة بالزواج من شقيقها بطليموس الثالث عشر وأن يحكما معاً عملاً بالعادة التاريخية لحكام البطالمة في مصر، حفاظاً على الدم الملكي بينهم كأسرة حاكمة تنحدر من نسل الآلهة. وهنا، يأتي تاريخ الحكام البطالمة في الزواج بشقيقاتهم ليُضعف الرواية القائلة بأن كليوباترا السابعة كانت تملك نسباً مصرياً من جهة الأم.
ووفق الباحث حسين الشيخ في كتابه «العصر الهلنستي» فإنه بتولي كليوباترا السابعة عرش مصر نشبت الحرب الأهلية واستمرت حتى جاء يوليوس قيصر وأنهاها بعد أن دخل معركة ضد السكندريين احترقت فيها أجزاء كبيرة من الإسكندرية وربما شمل الحريق مكتبة الإسكندرية، ثم أعلن كليوباترا ملكة على مصر.
وتنوّعت علاقات كليوباترا بالقادة الرومان منذ يوليوس قيصر التي أثمرت ابنهما قيصرون، وكانت سبباً في اغتيال قيصر، وصولاً إلى أنطونيوس وأخيراً إلى أوكتافيوس كما يستعرض الدكتور أحمد غانم أستاذ التاريخ القديم في كتابه «دراسات في تاريخ مصر البطلمي والروماني»، ويضيف غانم في الكتاب نفسه أن كليوباترا السابعة تُعد من أكثر شخصيات التاريخ إثارة للجدل، ويرجع ذلك إلى أنها ربما حاولت الحفاظ على مصر وعلاقتها بالرومان في آن واحد، وعموماً فقد تأثّر المؤرخون في حكمهم عليها بالدعاية الرومانية التي ألصقت بها كل ما هو مشين!

المركزية الأفريقية بين الفكرة والممارسة
على خلفية ما عاناه الأفارقة في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية من اضطهاد وعبودية وعنصرية، وٌلِدت حركة المركزية الأفريقية، والتي كانت في أصلها دفاعاً عن أقلية عرقية، غايتها أن تنشر وتروّج لمساهمتها الثقافية والحضارية في التاريخ الإنساني، وهذا ما لا ينكره أحد، فحضارات أفريقيا تاريخية وممتدة منذ آلاف السنين، مثل حضارة كوش السودانية، أو مملكة أكسوم التي تمركزت في أثيوبيا، وحضارة جزيرة كيلوا الواقعة على الساحل الشرقي الأفريقي، والتي كانت ميناء تجارياً وحضارياً مهماً في تنزانيا، وعلى رأس تلك الحضارات، الحضارة المصرية الأقدم والأعرق، والتي لا يمكن نكران اتصالها الجغرافي بالقارة الأفريقية. ما أثار موجة الغضب تجاه عمل «نتفليكس» الجديد ليس فكرة المركزيّة بذاتها، وإنما ممارسة تلك الفكرة من منطلق زائف، فأصبحت الفكرة لا تعترف بحضارات أفريقيا القديمة، وإنما تسطو على خصوصيات الحضارات الأفريقية وتلوّنها بالأسود فحسب، وتحث على خطاب كراهية ضد شعوب دول شمال أفريقيا ومحاولة إظهارهم بمظهر المحتلين للأرض. ثم هناك التحصّن الجاهز بالصوابية السياسية، ووصم أي مُنتقِد لأفكار المركزية الأفريقية بالعنصرية تجاه اللون، أو وصمه بالخضوع لعقدة المحتل الأبيض! هذا ما أثار حالة الرفض نفسها تجاه الممثل كيفن هارت وحفلته الأخيرة التي ألغيت في مصر.

كليوباترا الحائرة بين شكسبير وبرنارد شو
اختار وليام شكسبير كليوباترا خاصته في مأساته أنطونيو وكليوباترا، أنثى جميلة وفاتنة، أما جورج برنارد شو فرأى كليوباترا الخاصة به أقرب إلى حيوان وضيع كما عرضها في مسرحيته قيصر وكليوباترا.
وهكذا كانت كليوباترا دائماً تترنّح ما بين الصورتين في الوجدان الأدبي والفني، هذه الرومانسية التي انتحرت في سبيل الحب، أو كما رآها شوقي أمير الشعراء محبة لوطنها ومخلصة لشعبها في مسرحيته الشعرية مصرع كليوباترا، أو تلك المتسلّقة للسلطة، مغوية الحكام من الرجال.
ومع إعلان المسلسل الجديد، بقيت كليوباترا حائرة بين صورتين، وبين معارضين لصورتها كما بدت في الإعلان، وبين مدافعين عن تلك الصورة!
أما عمّن تحمّسوا للعمل فقد رأوا أن في ذلك زاوية رؤية جديدة لشخصية كليوباترا، أن نرى الملكة البطلمية ذات أصول مصرية، سمراء البشرة، لربما يكشف ذلك عن قراءة جديدة لتلك المرحلة من تاريخ مصر.
ولكنّ الأغلبية لم تكن بالحماس نفسه، إنما رأت في المسألة محاولة سطو وتزييف للتاريخ المصري، وأن ما يحدث هو خطة ممنهجة لتقويض الهوية المصرية.
وبين الصورتين انساق الكثير، ليتجاوز الأمر سياقه، فبدلاً من أن يكون حماساً للعمل أصبح تبادلاً لاتهامات بالعنصرية والشوفينية، وبدلاً من أن يكون نقداً للطرح أصبح سخرية من لون البشرة، من دون الأخذ في الاعتبار أن الحضارة المصرية تُعتبر أقدم الحضارات الإنسانية وامتدت لآلاف السنين ولم يكن الحكام المصريون على شاكلة واحدة، وتداخلت معها حضارات فارس واليونان وروما والعرب، وأن نسيج المصريين متنوّع، وتلك خصوصية مصر ومزيّتها.
لا يسعنا الآن إلا أن نحاول ضبط تلك المفاهيم في سياقاتها المحددة وأن ننتظر إلى أن يُعرَض المسلسل، ونرى إن كان العمل يتوسّم رواية تاريخية هامشية، أم أنه يتوهّم رؤية تاريخية كاملة؟