بعد ثمانية أولاد، ها هي والدتي تشاهد تلفزيون لبنان ببطن متكوّرة. «لحن الخلود» كان فيلم السهرة، وبطله فريد الأطرش، بشخصية وحيد، الرجل الذي يهتمّ بابنتيّ صديقه بعد وفاته. تحبّه إحداهما دون أن يشعر بأي شيء تجاهها. مع تصاعد أحداث الفيلم، بدأت آلام المخاض عند والدتي تتحرّك، وراحت الشاشة تزوغ قبالة عينيها، وتتسرّب منها تفاصيل الخلود ولحنه. أرسل أبي بطلب الداية نهلة التي هرعَت مسرعة لسحب رأسي. عصيتُ لثوانٍ عند منطقة الكتفين، لأعود وأنزلق دفعة واحدة لتظهر خصيتاي بشكل جليّ. في الشرق سيبقيان فأل حسن، حتى لو سبقني أربعة ذكور وأربع إناث. خمسون ليرة كانت هديّة أبي للداية، وكأني خلقت ذكراً بسببها. كانت الساعة الحادية عشرة والنصف مساء، في آخر يوم من شهر آب لكنه لم يكن كذلك في تلك الليلة، إذ أمطرت السماء بغزارة، حتى اضطُرّ إخوتي النائمون على الشرفة، إلى حمل فرشاتهم، وشراشفهم ليدخلوا اتقاءً لزخّات المطر المفاجئ. «إنها بُشرى خيّرة» قالت الداية نهلة، وكان خيراً قصيراً، لم يدم لأكثر من سبعة أشهر وأسبوعين، إذ اندلعت الحرب في 13 نيسان، من عام 1975. حدث الأمر على بُعد أمتار من بيتنا المجاور لعين الرمّانة، حيث بدأت الشرارة بإطلاق النار من سيارة «مجهولة» على مرافق بيار الجميّل، بينما كان الجميّل يفتتح كنيسة أسفل مبنى في عين الرمانة.

(رسم: هاشم رسلان)

عصر ذلك اليوم، تمّ الانتقام عبر إطلاق النار على تلك البوسطة التي صارت نقطة انطلاق الحرب التي دامت لخمسة عشر عاماً، دُرِزَت بالنار، قطبةً قطبة، ليتمرّد الخيط في أحيان، ناسجاً قطبه المخفيّة، مثل لحظات الفرح الحميم، الذي عاشه أغلب اللبنانيين، على شكل نشوات متقطّعة، مثل تعطيل يومٍ دراسي، أو استلقاء مع فاتنة الحيّ، على حصيرة في ملجأ. وهناك من كافأتهم الحرب، بأن نفخت جيوبهم، أو أسكنتهم الشقق الفاخرة. هؤلاء يخجلون من هذا الاعتراف، بأن بعضاً من وجدانهم، يحنّ إلى إيقاعاتها الصاخبة، حيث التنقّل على حواف الخطر، كأنهم طابات روليت، يستقرون على هذا الرقم، أو ذاك، فتنسدل أفواههم نزولاً، أو تُمتَشَق صعوداً، على حسب الرقم.

رشقات تعفينا من ارتداء المراييل
منذ تلك اللحظة، لا أظن أنني رحتُ أكبر، بل مثلي مثل الحرب، صرنا نتفاقم، نندلع، نتوارى خلف أكياس الرمل، ونعدّ الوقت باحتساب الفجوات على الجدران.
ليس بمقدور الصغار تخيّل الأوجاع التي لا يعيشونها. كانت تلك جنازات الغرباء. أشاهد بعضها عابرة في حيّنا، وأكثرها في نشرة الأخبار التي يذيعها عرفات حجازي، من الكانال سبعة. لذلك لم أكن أعبأ للدم الذي يولّده الرصاص، بل كان الأزيز يطربني، كما يطرب أترابي الصغار، حيث كنّا نستبشر تعطيلاً لمدرستنا في اليوم التالي، فلا قيمة للطبشور قبالة البارود. هل ثمة داعٍ لوصف سعادتنا الغامرة حين نعلم أن أبواب المدرسة مغلقة؟! لا حدث، ولا خبر، يضاهيان فرحة الأطفال الذين سيكسبون يوم لعب إضافي، حتى لو كان بين الجدران الأربعة، أو ربما في ملجأ قريب.
حين بدأنا نعي هول المجازر، وفظاعة الخطف على الهويّة، خجلنا من رغباتنا تلك باستمرار المعارك، كرمى لممارستنا ألعابنا: غميضة، لقيطة، إيكس، سبع بلاطات، ونوقف البلّورات الصغيرات في ملعب الشيخ جعفر، حيث الوحل الذي يشقّق بشرات أيدينا الطريّة. أجل خجلنا من أحاسيسنا الأنانية، لكن الإحساس بالبهجة لم يفارقنا كلّما سمعنا رشقات قنص متقطعة. إذ كنّا نبتهل لسماع الجواب بالرصاص من الجهة المقابلة. افعلوها أيّها المجعّبون بمماشط الكلاشنكوف، والقنابل الصنوبرية. افعلوها يا أبناء العقائد، بمناجلكم، وصلبانكم المشطوبة، وأهلّتكم، وزوابعكم، ونموركم...

غمز العشاق في الملجأ
رائعة هي الحرب حين ننجو منها. في ملاجئها انعقدت أجمل قصص الغرام، حيث ينحشر سكّان الحيّ في مساحة ضيّقة، على ضوء قنديل الكاز، أو شاشة اللوكس. هناك كان الغمز لغة القلوب، بينما الآباء يلعبون الطرنيب والليخة، ولا شيء يخرق انفعالاتهم سوى فصفصة البزر المصري الذي شاع في تلك الأيام كوسيلة تسلية. أحد ملاجئ الشياح كان معملاً بدائيّاً لتجهيز الكبيس على أنواعه، فكانت منتجاته المالحة تلك، تسلية الهاربين إليه.
كان لذلك الاحتشاد القصري، متعة الثرثرات لجيران لم تسنح لهم الظروف لأن يتسامروا من قبل. وبعض البوح خاص، وجريء، إذ تصغر الأسرار في حضرة الآر بي جي، ورصاصات 23 المتفجّرة. كادت الفضفضة أن تبلغ مرتبة الاعتراف الأخير. قلّة هم اللذين نظروا إلى الملجأ كمركز تفريغ في تداعٍ حرّ.

منقوشة مصلحة
لولا الحرب لما كدّستنا الوالدة في سيّارة المرسيدس الخضراء التابعة لخالي كمال، التي أحببناها لأن «زمّورها» يشبه مواء البقرة! هي واحدة من عوامل دهشتنا وابتهاجنا، فكنّا نتوسّله لكي يدوس على ذلك الزرّ ليتكرّر المواء.
أوصلنا الخال إلى بيت أخي في الحمرا، لنتفاعل مع أبنية أكثر أناقة، وجدران بلا ثقوب! رحنا نتمشى على أرصفة الشارع الأشهر في رأس بيروت، منبهرين بالواجهات العاكسة للواجهات التي تقابلها. هنا باعة الصحف، والسوداني الذي يملأ الفستق الساخن في «قرطاز». هناك وقفتُ مشدوهاً أمام طاولات «كافيه دي باري»، حيث رأيتُ لأول مرّة نجوم المسلسلات، جالسين بالقرب منّا، يحتسون فناجين القهوة، وينفثون دخان سجائرهم: أكرم الأحمر، سمير شمص، إبراهيم مرعشلي، علي دياب... هؤلاء أساطير طفولتنا بعد غرندايزر وسندباد. في الحمرا تعرّفنا لأوّل مرّة على مصطلح «منقوشة مصلحة»، من فرن زبيب، أو الكبوشية، أو بربر. في الشياح كانت الأفراح تقدم لك العجينة الفارغة ليملأها الزبون بما يحمله من زعتر، وجبن، أو لحم. من مطعم «اسطنبولي» في شارع بعلبك الموازي للشارع الرئيسي، رحنا نشتريِ سندويشات الدجاج بتلك الخلطة التي يقال أن «مرّوش» قد ابتدعها: ثوم وكبيس، في الخبز الإفرنجي المحمّص. سعادة سندويش واحد تعادل الحرب بمآسيها، بحسب مقياس سذاجتنا آنذاك. مع إعلان وقف إطلاق النار، كنّا نعود إلى الشياح، لنلعب «عسكر تخليص» أو نجمع أخشاب الصناديق المحطمة، لنصنع منها بنادق، على أن يكون النيشان، والزناد، عبارة عن مسمارين. بتلك الكلاشينات المعلّقة على أكتافنا بحبل، رحنا ننصب الحواجز، ونؤشّر للسيّارات بالتوقف، أو المرور. الكبار لا يعبؤون، لكننا امتلكنا لذّة السلطة، وذلك الشعور السادي بالسطوة!

اندماج الطبقات
بعض أقاربنا، كما الكثيرون ممن أعرفهم ولا أعرفهم، سكنوا بيوتاً ليست لهم. هكذا بوضع اليد، أو بطلب من أصحابها بغية حمايتها. في جميع الأحوال قامت الحرب بعملية دمج طبقية ما فوق مناطقيّة. عائلة خالي أبو سامر، قطنوا أوتيل «الفاندوم»، ليحموه ويتابعون شؤونه فترة تعطّله. أما عائلة خالتي فايزة، فسكنوا شقة في شارع أستراليا في الروشة، بطلب من صاحبها المليونير علي الجمال، قريب زوج خالتي. في الموازاة، كانت تحوّلات جذرية على الشواطئ، تحديداً الأوزاعي بشاليهاته الفاخرة بهندستها المتأثرة بفنون الحداثة. صار للبحر سكّان جدد.
في المرحلة عينها، أصبحت أرصفة شارع الحمرا مراكز للباعة على عربات، وطاولات. هذا ينادي على كروزات السجائر، وذاك على القمصان والثياب الداخلية، وثمّة من قدّم بسطة لأبيات المسدسات الجلديّة. كذلك اختفى رصيف الروشة ليصبح سلسلة تخشيبات لأصحاب المحلات الذين هُجّروا من أماكن القصف، فازدهر السوق الذي ساوى الجميع بلا يافطات تميّز هذا عن ذاك. كانت تلك البيوت، والشاليهات، والأرصفة، هدايا مجانية تمنحها الحرب، بالموازاة مع القصف، والعصف.

طنجرة وخمسون فمّ
حين راحت القذائف تطرق أبواب الحمرا، ولو بخفر، يممنا شطر الجنوب، نحو بلدتنا أنصار، لنكون عائلة من ضمن خمس عائلات سكنت بيت جدّي. أكثر من خمسين فماً في ثلاث غرف. تم اعتماد الطهي بـ«اللكن» المخصّص لتسخين الغسيل. كان اندماج الضرورة بالنسبة إلى النساء، بينما كنا نحن الصبية نعيش أعياداً يوميّة بتسلّقنا للأشجار، ومطارداتنا للجنادب الخضراء والرمادية، والاختباء في حقول البامياء. لقد منحتنا الحرب حزمة هدايا دفعة واحدة: أقحوان، ودحنون، وطيّون، وصبّار مجّاني، وتين على الدروب، ورمّان متدلٍّ من خلف الأسوار، وبعض الزعرور، والعنّاب، والسفرجل.

حين كبر ذلك الطفل، عرِف أن الملاجئ كانت سبيلاً للكثير من الزيجات، وتكوين العائلات. أما الذين سكنوا البيوت، فلَم يغادروها إلّا بتعويضات بآلاف الدولارات. مرّ وقت أطول ليعلم الطفل السابق أن المقاتلين لم يكونوا أصحاب قضايا جميعاً، فبعضهم حصّل ثروة، والبعض اكتفى بعمليات نهب صغيرة، تبدأ من الاستحواز على أثاثات البيوت، ولا تنتهي عند تفكيك المغاسل، وسحب أسلاك النحاس من تمديدات الحيطان.
بعد 33 عاماً على نهاية تلك الحرب، علينا الإقرار أن بعض الذين ذاقوا عسلها، يحنّون إلى هداياها. لقد منحَتهم متعة الطريق، كما كتب كفافس في رائعته «إيثاكا».