حتى لو قرأت عن الموقف عند سارتر، في مجموعته القصصية «الجدار»، أو حتى لو تحسّست الموقف بشفقة كما رواه بلانشو في روايته «وقفة الموت» وتعاطفت مع الأعجوبة التي أنقذته من إعدام محتّم، أو حتى لو كنت أيضاً ممّن لا تغريهم المبالغات اللّفظية في النّصوص التي تصف المواقف، إلّا أن هنالك ما هو أكثر من عبثي، وأكثر من تراجيدي في الموقف الذي ستختبره على مستوى وجودي حقيقي صرف عندما تزور دائرة حكوميّة في لبنان. لا أعني بالموقف هنا ما يكون التزاماً واصطفافاً يتفرّع عن أجوبة الأسئلة الكبرى، بل أعني الموقف الذي تُرمى فيه وتصبح في قلب حركيّته كما تُلقى قنينة في البحر، فيكون السؤال والتأمل في قلبه مجازفة، لضرورة اتخاذ الإجراء المناسب بسرعة تُجاري تسارع مجرياته.
الموقف المشروط بظرف زماني ومكاني، أي الموقف المتشيّئ الواقع في حقل المحسوس مباشرة. الموقف الذي يعدّ انغماسك فيه صراعاً بين إمكانية أن تكون نفسك، وبين الخضوع لإملاءات الموظّف البيروقراطي ورسمه لحدود خياراتك ومصيرك. الفرق بين الموقفين يشبه إلى حدّ بعيد الفرق الذي يميّز النّص العلميّ عن الرواية والقصيدة اللذين يقدّمهما أمبرتو إيكو. فالموقف الذي يعدّ تعهّداً، يشبه النصّ العلميّ، إذ إنه يقدّم إجابة بعد عمليّة تفكير جديّة.

(تصميم: فرانسوا الدويهي)

أما الموقف الذي يعنينا هنا، فهو أقرب إلى القصيدة، لأنّه تمثيل للحياة وانخراط فيها بكامل هشاشتها. وهنا لا يخفى عن انتباهنا أن إشكاليّة الموقف هذه، تعني الموقف الذي تختبره عندما تكون مضطرّاً لإجراء معاملة في دائرة حكوميّة ما، تظهر بشكل أقل وضوحاً من داخلها، لأنّه لا يمكن إخضاعها للتساؤلات والمعاينة وأنت في داخلها، أي في الموقف المباشر الذي تسكنه. إذ إنه من غير الممكن أخذ المسافة الضرورية لتحاشي التلقائية التي تزيّف الواقع. فالعالق بين مكاتب موظّفي الدوائر الحكوميّة لا يمكن أن يكون إلّا منفعلاً بتوجيهات الموظّفين الذين يجبرونه على الانتقال المفاجئ بين أروقة المبنى، ولا يمكن أن يكون فاعلاً في أي شكل من الأشكال. وهذا ما يدفع سؤال الحريّة إلى الواجهة، لأنّ سطوة الموظّف وأسلوب ممارسته لوظيفته، يقوّض مساحة الحريّة المتوفّرة للفرد في حياته الشخصية في مختلف أبعادها. إن أثر تقويض الحرّية لا يقتصر على التواجد في قلب الموقف، أو في ظرف كونك داخل حدود الدائرة الحكوميّة، بل يتعدّى ذلك ليطال خياراتك الحياتيّة أيضاً، لأنّ مزاج الموظّف البيروقراطي يقف كعثرة أمام استكمال المعاملة، التي تكوّن نقطة مركزيّة نشاطه، وأنت ما عليك إلا التحمّل والانتظار.
وإذا كانت الحرية الفردية تعدّ المجال المرتبط بالإرادة الإنسانية والحق في تقرير المصير، فإن قيم الحريّة التي كرّسها التّاريخ تتلاشى أمام حقيقة أن المحرّك الأساسي للأحداث يصبح، في باطنه، أمزجة الموظّفين وأهواءهم. وأن سيرورة الأحداث يسيّرها التّذمّر الذي يجسّده الموظّف الحكومي. فيتكوّن بذلك ائتلاف مفهومَي «الآخر»، وهو الموظّف نفسه، و«الجحيم»، والذي هو الموقف المفروض عليك في زمان ومكان طغى فيهما المناخ البيروقراطي. بعبارة أخرى، يسقط أحدهما في الآخر فيصيرا متطابقين، وعندها نستذكر مقولة سارتر «الجحيم هو الآخرون» وتصبح الدوائر الحكومية مُختبراً حسّياً لهذه التجربة.
في هذا الجحيم تحديداً، ينحلّ المعنى المتعلّق بإجراء المعاملة الرسميّة وإتمامها، ويهبط الموقف برمّته إلى مصافي اللاجدوى، فتتماهى أنت مع سيزيف، وتصحّ أيضاً مقولة بدر شاكر السيّاب «سيزيف، إن الصّخرة الآخرون». وهنا لا يعود الصّبر أو الحلم كافياً لحلّ هذه الإشكالية، فالتمظهر العملي لدور الدوائر الحكوميّة، وعلى عكس السرديّات الوصفيّة التّافهة التي تقدّمها من خلال الإشارة إلى أهمية دورها في تسهيل إتمام حاجات المواطن، تأخذ شكل المهيمن المحمي من المساءلة، والذي من غير الممكن تجنّبه. ويصير معناها الحقيقي، أي كونها وسيلة لتسيير شؤون المواطن غائباً، قائما شكلياً فحسب، يقتصر فقط على دوام مفروض، وهو تواجد الموظف في وقتٍ محدد مشروط. وهذا الوقت (المهدور) يشكل وحده، منحلّاً من المهام المفروضة والإجبارية، علّة هذا الحضور، الذي يشبه، بالنسبة إلى الحاضرين، أي نشاط يقوم به المرء نهار الأحد، وهو في أفضل الأحوال تشرّب بطيء للسّم، خدمة مدفوع ثمنها من وتيرة الأعصاب، رائحتها عفنة، مثل دخان الشواء الذي يطفو عالياً أثناء الطهو أيام الآحاد.
أمام حقيقة انسلاخ الوظيفة عن هويّتها الحقيقية، والالتواء الذي تخوضه والذي يجعلها أداة للهيمنة، يصبح المواطن مرهوناً للإيمان المزيّف على حدّ تعبير سارتر. الإيمان الذي يصوّر له أنّ ما من عمل للخروج من هذه المحنة الوحشيّة، وأنه من المتعذّر تجنّبها إلّا باعتماد حلول جذريّة مجحفة. وهذا ما يفسّر شعور المواطن بالدّونيّة أمام الموظّف. لأنّ المواطن يتلمّس الهيمنة لمس اليد، فيعمل على إعطاء كل إجراءات الموظّف، وتعليماته معنى يُفهم منه على أنها الخيار الوحيد الذي لا يمكن أن تحيد عنه. وأنّ كلّ محاولة للفكاك من المكر الحكوميّ الذي يمارسه الموظّف، سيثوّر حملة شرسة من الخيارات التحطيميّة. وهنا تطفو من جديد حقيقة مصادرة الحريّات وتقويض الخيارات التي تمارسها البيروقراطيات، وتطفو معها، أيضاً، الخيارات المجحفة. لأنك عندها، لن تجد تكتيكاً يضمن هروبك، سوى الهجرة، أو ما يساويها من خياراتٍ مردّها الأساسي الموقف الجحيمي الذي انقذفت فيه وحدك، سهواً.