غالباً ما يكون الألم تمظهُراً لإشكالية أعمق من مُجرد كونه إحساساً فيزيائياً مُستقلاً، فالألم كشعور مُلتبس، لا يُمكن الإلمام بأنماطه أو معرفة حدوده النهائية، لذلك نحاول دائماً تعيين حدود مُتخيّلة له وحصره في تكوينات مألوفة؛ بهدف ضبطه طبقاً للمقاييس الاجتماعية. بيد أن جميع أشكال المُعاناة والعذابات هي مُمارسات ظاهريّة أو باطنية؛ تُخفي داخلها تبريرات تخصّ صاحبها، فتأتي هذه التبريرات كلُغة تواصل ما بين الذات المتألمة والذات الخارجة عن دائرة الوجع، وعليه؛ فمظاهر الألم هي مُجرّد إحالة لعمليّة أشدّ تعقيداً، عاطفياً وجسدياً، تكتسب قيمتها من محاولة تطويعها داخل سياقات فردية أو جماعية ذات خصوصية معرفية، مثل التعذيب الجسدي، وثنائية اللذة والألم، أو تقنيات الإلهاء بالوجع. مثل هذه الحِيَل تنجح في دمج الأوجاع بالوجود الاجتماعي من دون تقييده بحدود ظاهرية، ومن دون فصله عن الواقع، فتمنحه المساحة المطلوبة ليغدو وسيطاً مُحايداً، يُجسّد تجارب شديدة الخصوصية من التطرف والتشوّهات الجسدية كما في تجربتَي المخرج الكوري الجنوبي كيم كي دوك (1960 – 2020)، والمخرج النمسوي مايكل هانيكه (1942)
مايكل هانيكه: عنف صوتي متخيّل واضطّرابات هويّاتية
يؤسّس مايكل هانيكه (1942) بعض أفلامه على الألم بشكل كامل، ولا يورده كثيمة في السردية، بل كسردية مُستقلة بذاتها تتمخّض عنها أنماط من التعذيب، ومن الانتقام الذاتي، فيخلق سينما قلقة وفجّة ترمي العنف المُجرّد بوجه المشاهد، حيث لا ينتهي تأثير ذلك العُنف السينمائي على الصور والشخصيات في العمل الفني، بل يمتد أثره على المُشاهدين في السينما. يُثير المخرج النمسوي الآلام في مسلكٍ سادي، لا يُمكن مُجانبته إلا بالفرار من السينما. تتجسّد تلك المفاهيم في فيلمه الأشهر والأكثر استفزازاً Funny Games، كتجربة استثنائية تتجاوز ميثاق المُشاهدة الطبيعي، وتستمد قوتها من إشراك الجمهور بالتجربة المريعة.

مشهد من فيلم Moebius لكيم كي دوك


من فيلم «ألعاب مرحة» لمايكل هانيكه

يحضر العذاب في فيلم «ألعاب مرحة» (1997)، بمظهرٍ شيطاني، ليس لأنه قاس أو مازوشي، بل لأنه مبتور، ما يجعله أشبه برحلة ميتافيزيقية تنبُت من العدم باستمرار. لا نعرف إلى أي مدى تمتدّ جذور الألم، لكنه موجود فحسب، ويُمارس وجوده بالطريقة الأشد صدقاً من وجهة نظره، وعليه لا يمدنا هانيكه بأي معلومات عن أشرار فيلمه، ويترُك المُشاهد مُعلقاً ما بين ذنبٍ وبصيص أمل لنهاية سعيدة لا تحضر. الأهم من هذا كلّه هو نجاحه في استفزاز المُتفرّج الذي يوقعه في فخ الذنب. فشخوصه المجنونة تكسر الحائط الرابع وتتحدّث معه بشكل مباشر، تغمز له، ليس كخصم بل كمُشارك في جريمة التعذيب الكاشفة لطبيعة الدراما في الفيلم، أي أنه يُزيح المسؤولية عن شخصوه المُختلّة ويُلقيها على كاهل المُشاهد.
الجدير بالذكر أن العُنف الجسدي لا يشغل حيزاً من الشاشة، بل يحدُث خارج الإطار، لتُصبح المادّة السمعية هي المصدر الأساسي للألم، حيث تترك للمتفرّج مجالاً لتخيل العنف الذي قد يفوق ما يحدث حقّاً وراء الشاشة. لا يرصد هانيكه إلا ما يُسفر عنه الألم: التشوه والانزلاق في هوّة الجنون. يُراقب بكاميرا ثابتة خارجة عن الزمان والمكان، لا تمنح المُتفرج مجالاً للتلصّص على العُنف المُمارس بشدة، حتى لا يمنحه شعوراً بالراحة، لأن كُل عذابٍ إلى زوال، وسيتعب الجلّاد من الضرب، وسيشعر المُشاهد بيقين الخلاص حتى لو مؤقتاً، مختلساً بضع أنفاسٍ من الراحة. يُجيز هانيكه للهمهمات والصرخات أن تخترق أذنَي المُشاهد فتزيد من عذابه، وبعدها ينظر البطل إليه، يضحك بخبث فيما يسأله إذا كانوا سيصمدون لنهاية اليوم.
يُمارس أبطال فيلم «ألعاب مرحة» العُنف لغرضٍ مجهول، ربّما لإرضاء انحرافات سادية، يتقمّص خلالها الجلّادَون دور إله يسيّر ويتحكّم بالمصائر لغرض مجهول، فيخبو كُل أملٍ بالنجاة، لأنه يطوق الوجود بإرادة ميتافيزيقية لا يسع الإنسان الطبيعي الفرار منها. حتى الأخطاء البشرية لا سبيل لحدوثها وإذا حدثت، فالواقع الزمني الميتافيزيقي يسمح بالإعادة والدوران، مثل المشهد الذي تُطلق فيه الأم النار على بيتر. هذه الفُرصة المثالية لقلب الطاولة، والقضاء على الثُنائي المُختل. إنها فُرصة للخلاص، بيد أننا نجد بول، يأخذ ريموت التلفزيون، ويُعيد الزمن، قبل أن تُمسك الأم بالبندقية، وعندها سيُبطل مفعول حبكة الانتقام قبل أي نوع من الخطر. هذه اللحظات التي تحمل إيهاماً كاذباً بالنجاة، هي الأشد وطأة ليس على الأبطال فقط، بل على المُشاهد نفسه.

من فيلم The Isle لكيم كي دوك


مشهد من «معلّمة البيانو» لمايكل هانيكه

في فيلمه «عازفة البيانو» (2001) يتعرّض هانيكه للألم بطريقة مُختلفة، ويربطه بخللٍ في دائرة الأُسرة المُقدسة، أي إنه يمنح أساساً له ويفتح له مجالاً قصصياً، على العكس من «ألعاب مرحة» الذي يستأصل الظاهرة من سياقها ليبني فوقها عالماً كاملاً. من اللحظة الأولى يشهد المُتفرج شجاراً بين الأُم وابنتها، ومن هذا الشجار، تتفرع روافد اضطراب جنسي وهويّاتي هائل. فالابنة مُقيدة بإرادة أمها ضمن علاقة شبه سادية، تُجرّدها من موقعها الاجتماعي كشخص يملك إرادة مُستقلة، فتشعر دائماً بعين أمها تُراقبها، وتحاول أن تختلس لنفسها بعض الوقت لتستكشف رغبات من مُمارسة الألم الجسدي. نراها تشرط ما بين فخذيها بمِبضعٍ حاد، لحاجتها الدائمة للشعور بسطوتها على جسدها المكبوت. طورت مُعلمة البيانو إريكا (إيزابيل أوبير)، منهجية سادية في التعامل مع البشر خارج سطوتها، يسودها الاستيلاء والتملك، فلا تلبث أن تخرُج من سطوة أمها، لتُهيمن على الآخرين بتقنية أعنف، وعندما يخضعون لها يُشعرها ألمهم بنشوة عارمة. يُمكن الاستدلال على هذا بتسلسل مشهدي بينها وبين شخصية كليمير في دورة المياه أو المرحاض، حين تثيره جنسياً، وتترُكه معلقاً على حافة الإحباط الجنسي لتتحكم به. لا تتركه يُفرج عن ذروته، ولا تدفعه عنها بشكل كامل، إنها بحاجة دائماً إلى الوجع الجسدي؛ كأداة للهيمنة. من هنا يكتسب الألم شرعيّة سادية تسُد فراغ تشوهاتها النفسية. وفي تسلسل أخر، تدس شفرات زُجاجية في جيب معطف تلميذتها، بمنطقٍ داخلي ينُص على الانصياع، حيث ترصدت للفتاة التي بدأت لتوها الخروج عن سطوتها، فشريعة التعذيب بالنسبة إليها، لا تقتضي الخروج عن الإطار، وتلك المُمارسات تُفضي للمشهد الأخير، فيما تغرس سكيناً بجوار قلبها، لتخلق مستوى آخر من الألم، مستوى مجاور للموت، سلكته إريكا كرد فعل على مُمارساتها للألم، وهي مُمارسات فاشلة في النهاية، فهي لا زالت فريسة للوحدة، لم تُلبِّ غرائزها الجنسية ولا الاجتماعيّة، ما يجعل من الألم يبلغ مهمّة الخلاص.

كيم كي دوك: تلهّي بالألم وإخصاء جنسي
يُمكننا تصنيف سينما كيم كي دوك (1960 – 2020) تجربة مهمومة بالألم وبالعنف والعذابات البشريّة. يتحرّك المخرج الكوري الجنوبي في سرديّته من حقيقة كون الألم جوهرياً، ومتأصلاً في الهيكلة الاجتماعية والبنية الفردية على السواء. لكن هذا الشعور الفائض يحتاج إلى مُثيرات، أو اضطرابات في المَتن الاجتماعي أو السياسي أو حتى ارتباك في طبيعة الشخص الجنسانية؛ ليخرُج في نوبات انفجارية. وللألم في أفلامه، تمظهرات مُختلفة، فيُصوّره كعنصر أساسي، ويحوّله من شعورٍ مُجرد إلى علّة الحياة نفسها، فيخلق شخصيات تالفة، منقوصة، ويختبرها في وسيطٍ يتجاوز منطقية الدراما، فيتعدى حدود المعقول والمتوقع، ويوفر للمُشاهد تجربة استثنائية من العُنف الجسدي. كلّ هذا فيما لا يسمح للألم في موضوعهِ الجسدي أن يُسيطر على الحكاية، ولا يُجيز لتمظهُرات العُنف أن تسلُب الفيلم من سرديته الأصلية، ولكنه على النقيض لا يضبُط حدود العُنف والوجع الذي يسبّبه.
يتبدى الألم بوضوح في أفلام مثل The Isle عام 2000، من خلال لحظات مُكثفة انفجارية للبطلة هي جين والبطل هيون تشيك. البطلان صامتان: هيون تشيك مُثقَل بذنب قتل حبيبته الخائنة، يحاول أكثر من مرّة الانتحار، فيختبر كل هذا العذاب في جسده الذي يبدو كوسيطٍ تجريبي للألم، لغرض أساسي معروف وهو الموت. يدسّ خيط صنارة مُدجج بخطاطيف حادة في حَلقِهِ، يُمرّرها عميقاً في حنجرته، ثُم يشُد الخيط بعُنف ليتقيأ دماً. تبدو التجربة الذاتية للوجع كمحاولة لإنكار سطوته وتهميشه، أو أنها تقترب من أن تكون تحدٍ للموت بطبيعته المروعة. تأتي هي جين بقاربها وتُنقذه من الموت بطريقة غريبة، وتُيقن أهمية الألم والعلّة كعامل إلهاء ضروري للحصول على الحُب، ليحدث العكس لاحقاً. يتسلّل هيون تشيك منها خفية ويحاول الهرب وينجح في ذلك، بيد أنها، وبنفس الطريقة، تلتقط خيط الصنّارة المُدجج بخطاطيف عدّة، ولكن هذه المرّة تدسه في فرجها، وتجذب الخيط بعُنف. تصل صرختها إلى أذنَي هيون تشيك الذي ما إن يعود يجدها غارقة في دمها، ويُخرِج الخطاطيف المُدببة برفق. من ذروات الألم هذه تتوالد لُغة تواصل جديدة داخل أفلام كيم، لأنها تُخلّف وراءها فُرصاً للهيمنة وتحقيق أهداف مُستعصية على الفرد، كما حين تسعى شخصيّاته إلى تطويع الآلام لتوليد عاطفة حُب راسخة لا سبيل لإبطالها.
في فيلم آخر له بعنوان Bad Guy عام 2001، يستنبط البطل هان كي ألمهُ من حقيقة كونه وضيعاً في عين أحدهم. شعور معنوي ينبثق من حُمّى طبقيّة وانهيار اجتماعي له أصول تاريخيّة، فهو في النهاية مهما امتلك من قوّة وسُلطة، يبقى قوّاداً، سمساراً للبغاء. هذه الهويّة المُكتسبة من طبيعة العمل؛ تُحرك بداخله شعوراً بالاحتقار لا يُمكن تغييره، ولكن يُمكن ملؤه بتذليل امرأة لن تحبّه. يُخطط هان كي لإذلال امرأة تمنعت عليه، وبصقت في وجهه، وينجح في قهرها وإجبارها على الانضمام إلى شبكة دعارة. رغم ذلك، يتعامل مع نقيصته بشكل سادي، فيُراقب غُرفتها من وراء مرآة حاجبة، ويرى الزبائن يتوالون على اغتصابها، وألمها يتحول أمام عينيه إلى عذاب، ولكنه لا يفرح لرؤيتها هكذا، بل يتمنى أن يتلاشى اللوح الزجاجي من حياته. فاللّوح الزُجاجي الحاجب يُمثل الانفصال والفجوة الطبقية بينهما، إلا أن هذا اللوح نفسُه يمنح للألم هوية حميمية، كأداة للتلصص على المُحب من جهة، فيما تُعطي المُراقب شعوراً بالهيمنة. هكذا تتّخذ المعاناة شكلاً فوتوغرافياً محبوساً داخل إطار مُعين ومحصور في تجربة مُغلقة.
في تجربة Moebius الفيلمية عام 2013، يزُجّ بنا كيم في هوّة تقوم على الجنس والألم. هوّة يصعب تعيين حدودها في المُطلق، خصوصاً أنه يرصُد من خلالها التصوّر الشبقي للألم، مختبراً بذلك الجسد كموضوع وأداة للوصول إلى شهوة أساسية. من هذا المنظور، يتحرّك بسرديّته نحو مصطلح العذاب الأكثر شمولاً، منطلقاً من المفهوم الجسدي طبقاً للناموس الاجتماعي، ويختبر العلاقة ما بين الجسد في موضوعه الجنسي وما بين الحياة الاجتماعية، ويطرح فكرة اضطراب الهويّة الجسدية والسمات الذكورية، وكيفية مُساهمتها في تُجريد الإنسان من شخصيته، ليتحوّل إلى كائن مبتور.
يُمارس المُخرِج كيم، وبشكل حرفي، الإخصاء العضوي لبطله بما يتعدّى مفهومه المجازي. يُمارس إخصاء تاماً للبطل عن طريق أمه الناقمة على والده الخائن، وفي لحظة تقتنع فيها الأم بأن العضو الذكوري هو أصل كُل الشرور فتقطع عضو ابنها. هُنا تبدأ رحلة الابن ووالده لإيجاد هويّة الفتى الجنسية في مُجتمع يُعرّف الفرد من خلال قُدرته على الاستمناء. هكذا يقدّم العمل الفني المجتمع، أي أن تجريد المرء من مزيّته الجنسية تُفقده قيمته الاجتماعية. هذا تحديداً ما يُشكّل الألم الحقيقي للبطل الذي يتعرّف مع مرور الوقت كيف يُقرن ألمه باللذة، ليتمكّن من الوصول إلى لذّة الاستمناء عن طريق الألم. هنا يفقِد الفيلم أحد سماته الأساسيّة وهي كونه مؤذ، ليستحيل لذّة خالصة حتى ولو للحظات عابرة.
إنها محاولة للتخلّص من العذاب الخارج عن الإرادة، عبر تقنين عذاب تشويه عضوه. تتبدّى تلك العملية على الشاشة في تقنيات عدّة لكنها مؤلمة بمجملها. تُنقَل الشخصية من حيّز العادي إلى حيّز المازوشي عن طريق علاقة غير عاديّة بين الذات المُتألمة والأدوات الخارجية، مثل حك أطراف الجسد بالحجارة حتى يُدمى الجلد، وغرز سكين في الكتف وتحريكها بشكل يزيد من وتيرة الوجع في مشاهد تفيض عنفاً. مع هذا فإن البطل يستمتع تحديداً بما يُسمّى فضيلة الألم، وهي علاقة تتطور مع اختبار حدود الأوجاع القصوى التي تفوق قُدرة الاحتمال البشريّة. لاحقاً، مع القتل المقترن بالجنس، يخلق الفيلم رمزية عن مُجتمع حيواني يحمل قيمته في غرائزه وفحولته، وينطوي على تخومٍ من الألم يختزلها في قُدرته الجنسية كفرد مُسيطر في العملية الجنسية، في حين أنه يظلّ مقهوراً اجتماعياً.