الفندق كما القطار، وعقارب الساعة، كيان يختزن أبعاداً شعرية ناضحة بالاغتراب. لطالما كانت غرف الفنادق مساحات غجريّة للعابر السريع، فلا يمتلك شيئاً هنا، ولا يمتلكه شيء. يومان، ثلاثة، أسبوع، هي أزمان قصيرة لا تغوي الدماغ ليفتح لها ملفّاً تحت خانة الحنين.
الغرفة الرقم 58
ماذا نقول عن الأديب ألبير قصيري الذي سكن غرفة الفندق لمدّة 63 سنة، حتى مات داخل تلك الغرفة، عن عمر ناهز 94 عاماً؟ في فندق «لا لويزيان» عاش ذلك المصري-الفرنسي، في الغرفة ذات الرقم 58، محيلاً الطعام والشراب، والغسيل، والكيّ إلى عمّال الفندق. أراد أن يكون ضيفاً دائماً على الكوكب، جذعاً بلا جذور، ليُتوّج إمبراطوراً على عرش الكسل، حيث لم يعمل في أي مجال، كما لم يُشاهد أيّ من أقاربه يعمل، فهو من عائلة ملّاكين، يحصدون المال كما كرات البرتقال. نسبة إلى أهله، بدا قصيري، بوهيمياً أنيقاً، يتلقّى هدية من رسام صديق، أو نحّات شهير، ليهرع ويبيعها في اليوم التالي، لينفق المال على زجاجة نبيذ يعرفها، وامرأة لا يعرفها.

«موتيل أميركي» (رسم: إدوارد هووبر)


حقيبة وحيدة وعشاء وحيد
منذ طلاقه من فاتن حمامة في عام 1967، اتّخذ عمر الشريف من الفنادق منازلَ له. الفنادق تشبهه، لا هي بأوزان زائدة، ولا تفاصيل كمالية فائضة. «أتناول وجبة واحدة في اليوم، هي وجبة العشاء، وأمتعتي قليلة، تحتاج إلى حقيبة واحدة». هكذا يصف الشريف «خفّته» أمام ثقل الوجود، بعقاراته، وأقساطه، وجيرانه... كل ما في الأمر أن الشريف يحتاج إلى أيام قليلة في التصوير، لينفق أموالها الكثيرة بعدها على طاولات البريدج، هو المقامر الأشهر الذي ورث هذه العادة عن والدته، التي يصفها بالـ«قمارتية» التي كانت تراهن مع الملك فاروق على الطاولة نفسها.

المؤقّت والأبدي
قلّما يختار أهل السياسة من الفنادق مقرّات لهم ما عدا المرات التي يقتنعون فيها أنهم سيمرّون عليها عابرين. وقد صدّق ريمون إدّه ذلك الاعتقاد، فسكن أحد فنادق باريس، لينتقل إلى فندق آخر ويعيش هناك وحيداً بلا عائلة. على مساحة 80 متراً مربّعاً تزنّر إدّه بالملفّات، وقصاصات الصحف، وخرائط يحلو له أن يقف أمامها ليشرح لزوّاره فكرة عن حدث جرى معه، أو ربما عما حدث مع والده إميل إدّه، الذي كان رئيساً للجمهورية اللبنانية. في غرفته تلك، خصّص رئيس«الكتلة الوطنية» نهاراته لمتابعة أخبار لبنان والعالم، وغالباً ما أصدر بيانات معقّبة. المؤقت طال حتى مات العميد، ليعود إلى لبنان، نعشاً في طائرة، ليستقرّ في فندقٍ من التراب.

سيوران الصاعق البارد
بين الأسماء التي أوردناها، كان الفيلسوف الروماني-الفرنسي سيوران، هو الأكثر شبهاً بغرف الفنادق التي سكنها طويلاً. تماهى معها حتى سكنته. أحبّ ذلك المتشائم ركوب الدراجة الهوائية، فكان يستقلّها من مدينة إلى أخرى، في فعلٍ غايته الاتصال والانفصال مع المحيط. حازم هو سيوران، كذلك كانت حبيبته. فبعد موته بساعات قليلة، اتصل بها فرنسوا ميتران، مستأذناً لأن يمرّ على مكان العزاء، لتردّ عليه: «ما من داعٍ لذلك سيادة الرئيس». سكن سيوران فنادق عديدة وحين استطاع أن يسكن شقّة في آخر أيامه، كانت في الطابق السادس، من مبنىً بلا مصعد كهربائي. في تلك الغرف العابرة، الثابتة، تفتّحت فلسفة سيوران الشذرية، بقوالبها الخاطفة كالبرق. هكذا يحبّر سطرين، أو خمسة أسطر، مختزلاً الوجود، والموت، والعبث، في توليفات صاعقة وباردة، مثل اختياراته في السكن.

ترتيب الموت
في أحد أجنحة فندق «ريتز» في باريس، عاشت كوكو شانيل ما يقارب 37 عاماً، لتموت هناك، في الجناح ذاته وعلى سريرها، عن عمر 88 عاماً. لقد فصّلَت تلك السيّدة الكثير من الثياب والديكورات، وتصرّفت بالطريقة عينها مع موتها. رتّبت كل شيء، بما فيه قبرها. وفي فندق «بيفرلي هيلز» انتهت حياة المغنية ويتني هيوستن، مغنية البوب الصاخبة، العابثة، العاشقة، الحزينة، التي أمضت آخر أيامها بين لعنتَي الإفلاس والكوكايين. هي التي قالت ذات يوم: «أفضل أن أكون وحدي على أن أكون تعيسة مع أصدقاء. وعدم وجود الأصدقاء ليس جريمة، لكنه في نهاية الأمر يعني مشاكل أقل».

الشحرورة والنمر الأسود
في الفندق ختمت الشحرورة صباح حياتها الحافلة بالغناء، والتمثيل، والزيجات، والشائعات، بعد أن تعرَّضَت لعملية نصب، أجبرتها على التخفّف من الأملاك. لم تكن الصبّوحة من هواة العيش المؤقت في غرف مؤقّتة. هي تنتمي إلى سياق آخر، لكنها رضخت لقوانين الحياة، الصاعدة الهابطة.
وعلى عكس فنانة «أيام اللولو» اختار النمر الأسود، أحمد زكي أن يعيش آخر سنوات عمره في فندق وسط البلد، تاركاً وحشة العزلة في بيته الضخم.
إلى مقرّه الجديد هذا، وصله أكثر من مليون رسالة إلكترونية، من محبين أحبوا مواساته أثناء مرضه.

تخضع الفنادق للتصنيف وفقاً لمعيار: على كم نجمة هذا الفندق يحوز؟ لكن كيف إذا سُكِنَت الفنادق بالنجوم؟ نجوم مختلفون، منهم بفلسفات عميقة، آخرون يمتازون بقناعات بسيطة، لكنّ جميعهم اختاروا الفندق أن يكون الوطن المعلّق الذي لم يطالبهم سوى بتسديد الأجرة، بلا أي ضرورة للنشيد وفبركة الأساطير لكتابة تاريخ الوطن.