هذا استبصار في آية قرآنية، ومحاولة دخول معناها من بوابة اللغة، عبوراً في سراديب الخيال والحدس المُفضية إلى حدائق المعنى المشعّة. وليس في ذلك ادعاء كشف الحقيقة، بل هي محاولة لاستشراف الدلالات الكامنة في الآية والاقتراب من مقاصدها الخفيّة ما أمكن، عبر شحذ طاقة الخيال واللغة والفكر. ما يغري في تأمّل آيات القرآن أنّ غموضه يخبئ الحقيقة، فالقرآن مملكةُ معنى متجسّدةٌ مملكةً لغويةً لها بوّاباتها وطرقها. وبإعمال الفكر فيه مع التوفيق، لا بدّ أن يصل السائل والمتفكّر في آيِهِ إلى معنى راسخ ونتيجة ناصعة.

تأويل الآية:
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (الإسراء: 64).
الآية مكيّة وموضوعها أخلاقي.

«قيلولة في الجمر» لعبد الرحمن نعانسة (أكريليك على كانفاس – 200×150 سنتم) - 2019

والأمر من الله إلى الشيطان فيه معنى التوبيخ والوعيد والإهانة كما قال بعض المفسّرين.
ورد في لسان العرب «الجَلبُ: سَوقُ الشيء من موضع إلى آخر ]...[. والجَلَبُ والجَلَبَةُ: الأصوات. وقيل: هو اختلاطُ الصوت ]...[ والجَلَبُ: الجلَبَةُ في جماعة الناس، والفعل أَجلَبوا وجَلَّبوا من الصياح ]...[ والجَلْبُ: الجناية على الإنسان».
إذاً يفيد الجَلبُ سَوقَ الإنسان من الحق إلى الباطل، إما في فعله أو في فكره أو في أيّ حال هو فيها، أي إما نظرياً أو عملياً.

ملاحظة: لِمَ لَم يقل واجلب بخَيلك على خيلهم وبرَجلك على رجلهم؟ ألِتجنّب التكرار؟ أم لعلّه لأنّ الإنسان مركّب فلا يكون من صنف الخيل مطلقاً ولا من صنف الرَجل مطلقاً؟ فمن صفته القابلية والاتصاف بما يتصل ويعمل؛ فهو في حالٍ من أهل الخَيل: إذا أقام في مخيّلته يتصوّر ويبدع ويحلّل... وفي حال أخرى من أهل الرَجل إذا أقام في العمل والتقنيّة. أو لأنه مخلوق كماليّ: أي تُحتمل خيليّته ورَجليّته في آن واحد؟ ومع ذلك واضحٌ إمكانُ تقسيم الناس صنفين في هذا الباب: أهلَ خَيل وأهلَ رَجل ومَن بينهما.

مَن هم أهلُ الخيل؟
ورد في لسان العرب: «خالَ الشيءُ يخال خَيْلاً وخِيلةً وخَيلةً وخالاً وخِيَلاً وخَيَلاناً ومخالةً ومَخيلةً وخيلولةً: ظَنَّهُ، وفي المَثَل: من يسمَعْ يَخَلْ، أي يظنّ، ]...[ وخيّل عليه: شَبَّهَ. وأخال الشيءُ: اشتبهَ. يقالُ هذا أمرٌ لا يخيل على أحد، أي لا يُشكل. وشيءٌ مخيلٌ أي مُشكلٌ ]...[ وقد يأتي خلتُ بمعنى علمتُ ]...[ وفي التهذيب: المخيلةُ، بفتح الميم، السّحابة ]...[ قال ابنُ الأثير: المَخيلةُ موضع الخيل، وهو الظنُّ كالمَظِنَّة، وهي السحابة الخليقةُ بالمطر ]...[ والخالُ والخَيلُ والخُيَلاءُ والخِيَلاءُ والأَخْيَلُ والخَيْلَةُ والمَخيَلَةُ، كُلُّهُ: الكِبْرُ ]...[ وتخيَّلَ الشيءُ له: تَشَبَّهَ ]...[ والخَيَالُ والخَيَالَةُ: ما تَشبّهَ لك في اليَقَظة والحُلُم من صورة ]...[ والخَيْلُ: الفُرسانُ ]...[ وفي التنزيل العزيز: وأَجْلِبْ عليهم بخَيْلِك ورَجْلِك، أَي بفُرْسانك ورَجَّالتك. والخَيْل: الخُيول».
معنيان موضوعيّان للخيل إذاً: الخيول، والخيّالة. إضافة إلى فلك المعاني المشترك بين الخيل (الحصان)، والخيال (من ظنّ وشُبهة وسمع وتشبّه صُوَريّ... ممّا ذُكر من المعاني السابقة).
ولعلّ البُراق في التراث الإسلامي رمز جامع لمعنى الخيل والخيال: الحصان الطائر الذي يأخذ إلى عوالم ومشاهداتٍ عُليا. وقد ورد في في لسان العرب ضمن مادّة «برق»، أنّ اسمه اشتُق من البَرق لسرعة حركته.
تجسّد هذ الآية معركةً خفيّة بين طرفين؛ الشيطان والإنسان. وبما أنّ معسكر الشيطان متمثّل بنوعين من الجند؛ الخيّالةِ والراجلين. فإنّ الطرف المقابل؛ الإنس، لا بدّ أنّهم خيّالة وراجلون، أي خَيل ورَجل كذلك. فنستنتج أنّ القرآن يصنّف الناس هنا صنفين: أهلَ خيْل وأهلَ رَجْل.
فمَن هم أهل الخيل؟ القرينة موجودة في اللفظ (فالخَيل يحيل على الخيال). هم أهل الخيال المرتفعون عن الأرض، وأهل العلوم النظرية والعلوم الأقرب إلى الباطن. الداخليون وأهل الظنّ كالشعراء، المتفلسفون، أهل النظر والاستبصار: كلٌّ بحسب رتبته ومنزلته. والخيال جزء علويّ من النفس، وهو الجانب اللاواقعي منّا.
هؤلاء أرفع عن الأرض (الواقع) بخيولهم أي علومهم ومخايلهم، وهي وسائلهم التي تجعلهم أسرع من غيرهم وأقدر في رُتَبِهم. ومثلما يعدو الخيل سريعاً، يعدو أولو الحدس قفزاً نحو المعلوم وأسرع بنحوٍ قياسيّ فارق من أهل الاستدلال العقليّ البِطاء (المنطقيين – التفسيريين). لكن على خطر! ففي تلك السرعة الحادِسة الخاطفة في تفكيرهم عَجَلٌ عن التحرّي، وعَجَلٌ في الحُكم، وتلك سمةٌ ونقيصةٌ في الوقت ذاته: ذكاء يطير بالحادسين طيرانًا نحو محدوساتهم فيجلب الشيطان بخَيله ما دامت حركةٌ وسرعةٌ وانتقالٌ هوائيّ! وقد شبّه النفري (محمد بن عبد الجبار، تُوفيَ بعد عام 354 هـ) العلمَ بالدابّة؛ نقرأ في موقف (معرفة المعارف): "وقال لي: إذا عرفت معرفة المعارف جعلتُ العلمَ دابّةً من دوابّك وجعلتُ الكونَ كلَّه طريقاً من طرقاتك" (الغانمي، 2007، ص 75). فأهل الخيل مَن لديهم الوسائل المتقدّمة المرتفعة: الحدس، التخيّل الصوريّ والفكر النظريّ والتجريديّ... وتلك دوابّهم المتنوّعة والمختلفة الوجهة والمنزلة... ما يجعلهم ما فوق الواقع أعلى من أهل الرَجل (الراجلين).

فأهل الخَيل هؤلاء وأولو النظر يحيَيون في نظرهم. وفيما يملأ العقل قابليات خيالهم فتتكوّن علومهم، ومعظمها علوم ناعمة: علم نفس، فلسفة، أدب، استبصار باطنيّ... أو تحضر الصور شتّى لتتزاوج وتُختَلق فيتغذي الخيال فنوناً شتّى: شعرًا، رسمًا، موسيقى... فإنّ ما تولّد في مخيلاتهم من علومٍ وفنون ووجهات نظر، هو ذاته العائق لهم. وأول عائق هو بُعدهم عن الأرض: لا واقعيّتهم. فكيف يتحايل عالِمٌ على علمه؟ أو يتخلّص فنّان من عواصف مخيّلته؟ إنّ دابّة العلم قد تقع براكبها، وقد تُعطب هي ذاتها، وقد يُتَناوَلُ الراكبُ من أيّ مكان لانكشافه، وقد تقوى هي على صاحبها كمن يغلبه ويغشاه فنّه أو علمه...
ولنصوّر ذلك المشهد الهوائيّ: أناس يرتفعون على بُرُق (جمع بُراق) في الجوّ ارتفاعاتٍ مختلفة، يسلكون مسالك مختلفة (متخيّلة، واهمة، مفكّرة وما بينها...)، ولهم محطات ينطلقون منها ومحطات يصلون إليها: مثلاً فنان ينطلق من الخيال نحو المتخيّلة ليُركّب ويهجّن صورًا ومجازات... تجلب الشياطين بالوسوسة والإيحاء بالخلط والتشويه وهو يدمج صورة بصورة... فذلك جلب بإبعاد الراكب عن الحقّ في بُعده التصويري.
في حال الفلسفة والتفكير، يكون الجلب في الواهمة والمفكّرة، أو ما بينهما... أي على المستوى التفكيريّ أو المفهوميّ النظريّ.
إذًا لأهل النظريّ شياطينهم التي تتخلّل منافذهم وفُرَجهم غير المحصّنة، كسعة المتخيلة لديهم مخلَق الصور والفنون (ممرَض الفنّان)، أو الواهمة (المُدركة المعاني الجزئية التي تسمّى القوّة شيطانية)، والمفكّرة التي تنتزع المفاهيم المجرّدة والكلّية، كالمفاهيم المتعلقة بالفلسفة. ففي تلك المناطق العلوية بين أعلى النفس والعقل يحصل الجلب وتشويه المعاني والمفاهيم.

مَن هم أهل الرَجْل؟
مَن ليست لهم وسائل علوية سريعة، الأقرب إلى الأرض بعقول منطقية حاذرة متحرّية تُبطئهم لتحرسهم، وعمليّة مرتبطةٍ بالمادّة.
هم الواقعيون، أهل الاقتصاد والسياسة والحرب، العمّال والتِقْنيّون وأهل الصناعات والجُند، هؤلاء كلّهم على أرض الواقع. شخصيّات غير معقّدة، بل أكثر سلامةً وعقلانيةً وأقلّ خيالاً. أقلّ أوهاماً وأكثر فاعليّة ومرونة. إنهم المنفّذون وعصبُ الأحداث، فرادى أو مجتمعات، ولهم شياطينهم كذلك.
بما أنهم أكثر حضوراً في الجهات الواقعية من العقل (أي التفكير الواقعي الأرضي لا الفلسفي المجرّد)، وفي النفوس من جهاتها الوسطى والدنيا (القوى الغضبية والشهوية والشوقيّة..) التي تربطهم بموضوعات تلائمها وتقودهم إليها، فيكونون: مهندسين، تقنيّين، رياضيّين، وجندًا (لحصول الشجاعة لديهم) منشدّين نحو الاعتداد والذَود عن العرض والأرض، تجّارًا، صناعيين... وبشخصيات أكثر جماعيّة تنضمّ في اللُحمة الاجتماعية بأشكالها المختلفة: قومية، دينية، عرقية، وعلى مستوى ضيق: عائلي، محليّ مجتمعيّ... ما يجعلهم ثقالاً على الأرض. وبارتباطهم بالمادّة أكثر من المعنى، وبالمعنى المتعلق بالمادّة أكثر من التجريدي، وبالحضور الأرضيّ بالمعنى الاقتصاديّ والسياسيّ، تكون لهم شياطينهم كذلك، شياطين أمكنتهم التي يقيمون فيها من نفوسهم ومن الواقع. ويكفي حرفهم - بثقلهم - عن مساراتهم، أو دفعهم أكثر في قواهم المنشدّين إليها، كشيطان الغضب مثلاً لا حصراً، فقد ورد عن الإمام علي: «واحذر الغضب، فإنه جند عظيم من جنود إبليس».
يجري نحو عقولهم المرتبطة بالموادّ والواقع رَجل الشيطان ليغير مسارها. ونقاط قوّتهم هي نقاط ضعفهم، فثقلهم هو حارسهم ومقتلهم الأول ومدخل جلبهم!
لكن ذلك التقسيم عموميّ، فليس أهل الرَجل بلا مخيلات ولا أفكار ولا العكس كذلك، فالمرء يتحرك بين منطقة من نفسه وأخرى، لكن تغلب إقامته في البعد النظريّ فيصحّ وصفه بأنه نظريّ أو في البعد العمليّ الأرضيّ فيوصف به.