تنطلق الكتابة عن المسرح وقوته وطاقته ووجوده، ربما، من ذلك السؤال القديم والمحيّر جداً: ما هو المسرح؟ هل هو طقس مجتمعي وديني وأسطوري يدخل في الطرق الكثيرة لمجتمعٍ ما لكي يعبّر عن نفسه، كما كان عند الفراعنة واليونان والرومان ثم في العصور الوسطى؟ أم هو فعل سياسة محض موجّه إلى البروليتاريا مثلاً وهدفه توعية الجماهير كما أراده إرفين بيسكاتور ومن بعده بريشت؟ أم هو مكانٌ للاستفزاز بسبب قدرته على الكشف كما اعتبره البولندي جيرزي غروتوفسكي؟ أم تلك الفسحة التي لا تنتهي للاكتشاف كما عند بيتر بروك؟ يمكن سوق العشرات من مثل هذه الأسئلة التي تنفتح على احتمالات لا حصر لها، لأنّ لكلٍ رؤياه التي قصّها عليه المسرح، والرؤى في المسرح العربي قد تكون قليلة أو كثيرة، لكنها قلّما وجدت طريقها إلى الممارسة. والسؤال كذلك مختلف: أين المسرح العربي اليوم، أين طاقته؟ ليس السؤال عن الحيّز المعماري والمكاني الذي يشغله المسرح، إذ إن أيّ مساحة فارغة يمكن أن تكون مسرحاً، إنما عن طاقة المسرح، وحضوره، ووهجه، وتلك القدرة الرهيبة على التأثير وبثّ الإحساس بالجلال.
ميت بلا قبر
ما يميّز المسرح هو طاقته المتجدّدة. طاقة تكمن فيه وتصدر عنه وترجع إليه، كما أنها طاقة مُعدية، خلّاقة. إنّ قرين المسرح، كما وصفه أنطونين آرتو من قبل، هو الطاعون. وإن قرين الفاعل فيه هو المُصاب بالطاعون؛ إمّا أن يشفى أو أن يموت. الشفاء هنا كذلك معدٍ، إذ لا بدّ أن ينتقل من الفاعل إلى الحاضر (المتفرّج - المتلقّي). أمّا إن كان المسرح نفسه يموت، في انطفاء فعاليّته، أو قلّة طاقته، أو عدمها... فإنّ الموت، بدوره، سيكون مُعدياً. سوف يكون الشفاء آخر ما يمكن أن يطمح إليه أحدٌ في مكانٍ يموت، ولم يُعلَن عن موته بعد.
المسرح طاقة، هكذا عرّفه المسرحي الراحل غسان الجباعي. خشبته هي المكان الأمثل للتفريغ وتبادل هذه الطاقة المتجددة. إنها حيوية بطبعها، كامنة مستدامة تنبع من ذاتها، ولا تحتاج إلا إلى إنسان متفاعل خلّاق فقط.

من دون عنوان 4 لإليز زخور (تصوير ديجيتال على ورق)

إن السؤال الذي طرحناه سابقاً: أين المسرح العربي اليوم؟ يمكن الإجابة عنه بمئات الأجوبة. الذي يعنينا منها هو ذلك الجواب الذي يتحدث عن طاقة المسرح. وطاقته هنا هي صدامه مع أشياء عديدة، إذ من المعروف أنّ هذا الصدام هو الذي كان ينتج طاقته من قبل. اليوم، كما هو معروف، فإن المسرح العربي أقل صدامية، أقل استفزازاً، وتلك القدرة التي يتمتّع بها على الكشف غدت معدومة.
يلجأ المسرح العربي اليوم - وكل تعميم خاطئ لكننا نتناول ما هو غالب على مدى السنوات الأخيرة - إلى القضايا المدوّرة، الحياتية التي يعرفها الجميع والتي تدور بينهم في أحاديثهم العادية قبل أن يذهبوا ليروا إنساناً آخر يحكي ما يحكونه أنفسهم. إذاً، فإن المسرح غير منتمٍ إلى محبّيه ولم يعد ضرورياً بالنسبة إليهم. مساحته مشغولة بالثرثرات، وبابه مُغلق. إنه مكانٌ يموت، وتلك الطاقة التي ينشدها من يذهب إليه مُستبدلة بحالة مستدامة من العطالة المُعدية، وعمليّة الخلق - التي هي أساسه - مُستبدلة بعمليّات نسخ واقتباس عمياء في مجمل عناصره.
لقد تمكّن المسرح في مكانٍ ما من العالم العربي في أن يكون مسرحاً «غنياً بأخطائه» كما كان غروتوفسكي يقول بتطرّف. لقد صُيِّرَ مساحةً يتمّ شغلها بأيّ شيء، عدا الأشياء المرجوّ أن تشغله، ولا سيّما خطابه.
إن الخطاب الذي يقدّمه المسرح العربي اليوم، هو في الغالب، خطابٌ متأخّر جداً عن متلقيه، وعن هموم ووجدان وعواطف هذا المتلقي، لذا فهو غير مُجدٍ، وليس ثمّة طاقة خلّاقة تتدفّق من وراء هذا الخطاب. ليس ثمّة عدوى إلا بموته، ذلك إذا عاملنا المسرح وفقاً للمفهوم الكلاسيكي الأرسطي الذي يجب أن يحقق في النهاية التطهير. إن شعورَي الشفقة والرعب - في حال تم تصديرهما من المسرح العربي اليوم - يصدران من وإلى المسرح نفسه: يحس المتلقي بالشفقة على المكان نفسه، وبالرعب عمّا آل إليه هذا المكان.
صحيح أن المسرح العربي منذ نشأته قبل قرن ونصف قرن تقريباً وحتى الآن بقي تحت سطوة الإيديولوجيا، الدينيّة والسياسيّة، سطوة تمحو على الفور كلّ ما يمكن أن يفلت من سوطها، لكن المحاولات الكثيرة التي نجحت في الإفلات من هذا السوط، تحكم على تجارب اليوم بفشلٍ ذريع، وربّما تصفها بأنها ليٌّ لعنق المسرح، وليس تطويعاً له. ربما يكمن الفارق في التجارب السابقة التي لم نعايشها لكننا قرأنا وسمعنا عنها مقابل تجارب اليوم في أن تلك كانت تطوّع العناصر والطاقات لخدمة أهدافها، فيما تجارب اليوم تطوَّع وتصب في حالة الموات التي يعانيها المسرح، وكثيرون من المشتغلين فيه، ومحبّوه.
إذاً، لا كلاسيكية، ولا تغريب، ولا تجريب، ولا تجميع. صحيحٌ أنّ هذه الأشياء قد تكون موجودة في مكان ما من العالم العربي، إلا أن تأثيرها صفر. من ذلك يمكن القول إن المسرح العربي اليوم ميت بلا قبر. ميت لأنه فقد طاقته، التي ينسحب عليها كلّ ما سلف، وبلا قبر لأنه لا تزال ثمة نقطة من حياة فيه، هي آخر أنفاس المُصاب بالطاعون، والذي لا يعرف لنفسه مصيراً: هل سوف يشفى، أو يموت؟ أشياء كثيرة تقول إن الاحتمال الثاني هو الأقرب للتحقّق.

المآسي الكبرى
ثمة سؤال مشروع يمكن طرحه، وربما كان نفسه يُجيب عن الأسئلة السابقة: لماذا لا يوجد عندنا في العالم العربي كتاب كالذي حرّره إريك بينتلي بعنوان «نظرية المسرح الحديث» يتحدث عن «صانعي المسرح (العربي) الحديث العشرة» مثلاً؟ هل يوجد عشرة صنّاع للمسرح العربي، اليوم، مثل أدولف آبيا وأنطونين آرتو وبريشت وبيسكاتور وكريغ وغيرهم؟ بكلمات أخرى، هل يوجد في العالم العربي صنّاع مسرح، يجمعون الممارسة بالتنظير، ويتركون لنا كتباً تحكي عن آليّات عملهم وتقنياتهم وتعاملهم مع الممثل، وهمهم الفكري والفني بالدرجة الأولى؟
يدعو الناقد التونسي حاتم التليلي محمودي مثلاً، للانتباه إلى أن غالبية التجارب المسرحية العربية لم تكن جادّة فعلاً، وأرجع محركها إلى منزلة المسرحيين أنفسهم في مدنهم. من جانب سياسي، إنّ سخط هؤلاء ضد أنظمة بلدانهم كان هدفه في الحقيقة، والكلام لمحمودي، ضرباً من تحسين شروط إقامتهم وافتكاك مكاسب أكثر لهم.
ليس شرطاً أن نتبنّى وجهة النظر تلك، لكن يمكن أن نشتق منها كلاماً آخر عن الهمّ الفني والشخصي للفاعلين المسرحيين في العالم العربي. هل يوجد فعلاً همٌّ فكري وفني لأغلب المنشّطين المسرحيين العرب، أم هو همٌّ شخصي محض؟ هل يوجد مَن يمزج طاقته بطاقة المسرح وديناميكيته كي يعدي جمهوره؟ وأليس ما يجمع عدداً ليس بالقليل هو همّ الصورة كفاعل بالمسرح، كمسرحيّ، لا همّ المسرح نفسه؟
من ذلك يمكن الانتقال إلى محاولات التأصيل النظريّة الكثيرة والبيانات لِمَا يجب أن يكون عليه المسرح العربي التي شغلت من الوقت والمساحة أكثر مما شغلت أي تجربة عمليّة فيه، فاستنزفت طاقته وساهمت في إدخاله حالة مواته.

انقطاعات الموت
كُتِبَت دراسات كثيرة في أسباب تأخر وصول المسرح إلى العالم العربي، وذكرت عوامل إيديولوجيّة كثيرة وراء هذا التأخّر، منها العامل الاجتماعي للإنسان العربي المطموس كفرد، والذي لا بدّ أن ينتمي إلى جماعة «لا وزن له إلى جانبها ولا قيمة له بالقياس إليها» كما قال زكي نجيب محمود مرة. بالتالي فإنّ الفرد العربي، وغالباً لا يزال إلى اليوم، مُنمَّطاً (هُويّاتياً)، ولأنّ الانتماء ضرورةٌ مُلحّة، إذ لا قيمة للفرد إلا بانتمائه إلى جماعة أكبر، يسيطر الاغتراب على موضوع الهُويّة، ويُقضى على إمكانية الحريّة التي هي أساس الهُويّة.
ينسحب ما سبق على المسرح بشكلٍ ما، إذ دائماً ثمّة جماعة، أو بنية متحكّمة سائدة تشكل الجماعة، وتفرض ضرورة الانصياع إليها. لذا، صار المسرح، بوعيٍ أو من دون وعي، يحقّق الشرطيّات المفروضة في اشتغالاته عبر التنميط. لقد أُخمِدَت أيّ مشكلة أو صراع وجودي وسياسي يزعزع شروط البنية المتحكّمة فانطفأت حالة الصدام التي كانت تحرِّك هذا المسرح، وتنفخ فيه طاقته، وتنقلها بالعدوى إلى متلقّيه، هذا على الأقلّ على صعيد خطابه. وخطاب المسرح هو ما يبني العلاقة بينه وبين متلقّيه، هكذا سمعنا وقرأنا عن المسرح العربي وذروته في الستينيّات والسبعينيّات، عبر خطابه، ثم انطفاء هذا المسرح بسبب تراجع خطابه.
من ذلك، وكلّ ما قيل سابقاً، ربّما يتحدّد الدور الذي يريده الفرد العربي، الذي يصارع من أجل فردانيته وإمكانات حريته وهويته، للمسرح «ألا يكون كل ما سبق»... أن يعود إلى صدامه، واشتغالاته غير المشروطة، وألا يستخدم عوامل تأخره من أجل تأخيرٍ آخر. تلك هي الماهية المبتغاة والمرجوّة له، أن يعود مكاناً كاشفاً قادراً على الاستفزاز. لا بد أن تكون ثمة محاولات من هذا النوع اليوم تشكل انقطاعات لموت المسرح العربيّ. وتُرجّح كفّة الاحتمال الأول في الخيارين الموجودين، الشفاء أو الموت؟ فيكون شفاءً.