من ارتفاع 3 طوابق؛بلّل العرق الوسادة، العرق بلّل السرير والغرفة والسقف والطابق الذي أسكن فيه. أنا الآن بركة ماء تنفث هواءً بنكهة المنتول، هاها، يا للعار، اسمها «تركواز» أيضاً. أحدهم سرق كلّ علب التبغ التي أحبّها من المتاجر، ولم أجِد سوى المينتول. في العتمة أذكرها جيداً، في الواقع، أنا لا أستطيع الفكاك منها. كانت تضع رأسها على حافة الكنبة وتحدّق في وجهي حتى أخسر. جسدها كان بارعاً في صنع الحركات. حتى حمّالة صدرها كانت تعدّلها بطريقة ذكية. مع صوت التصاق القماش على الجلد، ببطء، دائماً، لم تخطئ مرة واحدة في ذلك. أتصفّح «تويتر» وأقضم تفاحة باردة. من أين تأتي الحركات؟ هل نتناقلها؟ لكن ممن؟ إله الحركات؟ أين تمثاله؟
برايكنغ نيوز: أغار طيران الاحتلال الإسرائيلي على مناطق حرجية جنوب لبنان.

(رسم: فرانسوا الدويهي)

بالمناسبة، كيف كان يصف الهلاميّون دولة الاحتلال قبل أن تقدّم لهم أقطاب الحزب الديمقراطي كلمة «أبارتهايد»؟ لا أعلم. لم يصفوها بشيء ربّما. أعتقد أنها اكتشفت كيف بُنيت الخلايا العصبية داخل رأسي في لحظةٍ ما، ومنذها باتت الأشياء سهلة لها.
إنها الرابعة فجراً، الطقس حار، الكهرباء غادرت المنطقة منذ ساعات.
لم أستطِع يوماً أن أصف رحيلها. لم أجد تعبيراً مناسباً لما حصل حتى ارتطمتُ ذات ليلة بأغنية «بلاك» لفرقة «بيرل جام». مذهلة، تحديداً نسخة «إم تي في» غير اللبنانية. مغنّي الفرقة، إيدي فِدر، في المقطع الأخير من الأغنية، يصرخ لحبيبته التي رحلت، وهو يكزّ على أسنانه، يئنّ، وينفي ما حدث بحركات من رأسه وعلى وشك أن يُبحّ:
«أعلم أنّكِ يوماً ما ستحصلين على حياةٍ جميلة
أعلم أنّكِ ستكونين نجمة في سماء شخص آخر
لكن لماذا؟
لماذا لا يكون هذا لي؟
(الصراخ بات أعلى، هناك رجل يمزّق حنجرته على المسرح)
نحن ننتمي إلى بعض»
لديّ عملٌ في الغد، عليّ جرّ هذا الجسد في الصباح إلى المغسلة. عليّ أن أفتح غطاء معجون الأسنان، وأن أقف قبالة المرآة.
رسالة على الهاتف، وصلت على مضض:
«هاي، فايق؟»
هاها! أنا لا أعلم بما أجيب. لم أرد.
اختصر أنسي الحاج كل شيء في جملة مذهلة: «ومن أحبّونا لا نستحقهم، ومن أحببناهم لا يبرحون الرأس حتى ينفجر».
يتحوّل لون نسيج التفاحة الداخلي إلى بنّي بسبب تعرّضه للأوكسيجين. أتمنى لو تأتي الكهرباء الآن، أو حبيبتي، كنت سأُسمِعُها كيف يتنهد كريستوف كيشلوفسكي خلال نفثه الدخان للمرة العاشرة. هذا الرجل هو أكثر من مخرج سينمائي، أظنه اكتشف سراً ما في هذا الكون. خلال مقابلة معه، سأله الصحافي: لِم لا تعجبك أميركا بشكل محدد؟ «ما لا يعجبني في أميركا هو السعي وراء الحديث الفارغ والمتصل بدرجة عالية جداً من الرضا عن النفس. إذا سألت وكيل أعمالي الأميركي عن حالته، فسوف يقول إنني بخير للغاية؛ لا لست بخير أو بخير، يجب أن تكون حالته جيدة «للغاية»؛ أنا (كيشلوفسكي) لست بخير للغاية، أنا لست بخير على الإطلاق، وإذا أردت وصف حالتي بالإنكليزية «I’m so-so»».
لا أعلم كيف أتحرك الآن، أشعر أنّي أنتظر شيئاً ما. مثل افتتاحية فيلم «دامنايشن» للمخرج العظيم بيلا تار. تبدأ بمشهد عربات تلفريك معلّقة في الهواء، من ثم ترجع العدسة إلى الوراء لنكتشف أننا داخل غرفة رجل يشاهد ذلك كله.
أنا أهذي الآن، الأشياء كلها مبعثرة. الرطوبة عالية جداً، والهواء ممزوج بالماء.
أنا أغرق في بيروت، ومن ارتفاع 3 طوابق.