لقد ظهرت قضية أسّر الفلسطينيين بشكل جلي وواسع بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع في عام 1967حيث قامت السلطات الإسرائيلية باعتقال مئات الآلاف من الفلسطينيين والفلسطينيات الذين شاركوا في المواجهات ضد الاحتلال الإسرائيلي.في هذه المقالة أصوات المعتقلات الفلسطينيات في السجون الإسرائيلية، للوقوف على ما يسمّى التهميش والقمع المركب، أولاً كتهميش اجتماعي وسياسي من قبل مجموعة من الدوائر التي تبدأ من العائلة وصولاً إلى النظام السياسي، وثانياً القمع الاستعماري الذي يتمثل بالسلطة الاستعمارية الإسرائيلية على الأرض، وأخيراً الاختزال الصوتي الذي يقوم على محاولة اختزال أصوات المعتقلات بصوت واحد أو أكثر ممن يقعون في دائرة قيادة الحركة المعتقلة خارج السجن. في هذا النص صدى لأصوات المعتقلات كما جاءت، وبالتحديد الأصوات التي احتوت بداخلها على مشاعر المعتقلة أكثر من تلك المواقف التي تتحدث فيها المعتقلة عما تعرضت له من التعذيب والضغط النفسي.

الرواية الشفوية «قصص المهمشين»:
تلعب الرواية الشفوية دوراً في كتابة تاريخ «الفواعل المهمشة». تاريخهم الذي يتجاوز الكتابة الأكاديمية ويضعنا في العديد من المواقع المتعددة والمعقدة، ويتيح لنا كأشخاص وباحثين فهم التجربة بتفاصيلها ومشاهدها الرئيسية والثانوية التي تشكل المشهد الأكثر حيوية وتفصيلاً. بالتالي فإن التاريخ الذي نحصل عليه من خلال هذه القصص هو «التاريخ الآتي من القاع» الذي يركز على بسطاء الناس بحسب غيلوفي. وقد اكتسب هذا التاريخ أهمية كبيرة في الآونة الأخيرة خصوصاً في كتابة النساء الملونات كنساء مهمشات يقعنَّ في «أسفل السلم الاجتماعي» يعانين من الثقافة المحلية، ومن الاستعمار، ومن«نخب» الاستعمار.

(المركز الفلسطيني للإعلام)

إن القصص التي نحصل عليها من خلال الرواية الشفوية هي القصص الحيّة. أي أن هذا التاريخ الواقع في الزمن الماضي يمثل حالة بنيوية مستمرة وليس حدثاً مجرداً وقع في الماضي وانتهى. هي حيّة بذلك «الخيط» الذي يربط الماضي بالحاضر والمستقبل، بحيث يصبح الواقع اليوم مبنياً على ما حدث في الماضي، ولا يمكن فهم الحاضر والمستقبل من دون العودة إلى ذلك الماضي وحيثياته التي تظهره قصص هؤلاء المهمشين القادرين على تجاوز الخطاب المهيمن، أي الذي يمجد قيم البطولة في الثقافة المحلية ويطلب من الأسرى ألا يظهروا ألمهم، وأن يقوموا بإخفائه، ثم التمرد عليه في سياق تهميشهم.
تعتبر موريسون أن هذه القصص يجب أن يكون لها هدف، فعندما كتبت موريسون عن حياتها التاريخية قالت «أكتب هذا النص لإقناع أشخاص آخرين، أنت القارئ، الذي ربما ليس أسود، بأننا بشر يستحقون نعمة الله والتخلي الفوري عن الرق». أن نفهم ضياع فلسطين والمؤامرات الداخلية والخارجية والخيانة والهجرة، والقصص عن النساء تحت الاستعمار وبعد خروج الاستعمار، لا يتم إلا من خلال رواية الحدث بلسان من عاشه. وهنا تصبح رواية هذه القصص عملية تبادلية مع الآخرين.

قصص المعتقلات «اللحظات المؤثرة»:
في هذا الجزء مجموعة من القصص التي روتها الأسيرات والتي جاءت ضمن الأحداث التالية:

-فقدان شخص عزيز بموته من أكثر القصص المؤثرة داخل السجن، إذ تعمد إسرائيل إلى حرمان هؤلاء الأسيرات من إلقاء النظرة الأخيرة على أعزائهن، وتبين قصة (آ.ر) كيفية انتظارها وشوقها لرؤية والدها، إلا أنه توفي قبل أن يأتي موعد الزيارة، تتحدث وتقول:
«كان موقف وفاة والدي أصعب موقف مرّ علي وأنا في السجن، الي صار إنو إدارة السجن سمحت لأبوي إنو يزورني لأول مرة في 1/2/2016، في 25/1/2016، أي قبل الزيارة المقررة بأسبوع، بتنادي علي صديقتي لينا الجربوني بتقولي تعالي شوي، قلتلها ايش في؟ بلشت تحكيلي أمور دينية، بأن ربنا بوهبنا الحياة على الأرض، وبوخذها متى يشاء، أنا عرفت إنها بدها تحكيلي إنو في اشي عند أهلي، أنا سكّتها، قلتلها إحكي في إشي صاير عند أهلي، بتقولي أبوكي توفى، أنا ما صدقت، قلت إنتو كذابين، الأسبوع الجاي أبوي بدو يجي يزورني، لما أجى يوم الزيارة المقرر بعد بأسبوع، وصديقاتي بلشوا يجهزوا حالهم وبدهم يطلعوا على الزيارة، صرت أبكي وأبكي، وأحكي كان أنا طلعت معهم على الزيارة، أبوي كان أجى اليوم علي، كنت مخيطة لأبوي دفتر، بدي أعطيه إياه هدية... أنا ما كنت أعرف وين أبوي دفنوه، في المقبرة الجديدة ولا القديمة، كانت هاي الأمور تذهب وتأتي في مخيلتي... ما قدرت أمسك حالي لما إمي وأختي زاروني في السجن، صرت أعيط، وإمي ماسكة حالها، كانت أختي وقتها معها، قعدت أعيط أنا وأختي.»

زواج الأسيرة ورقياً من دون أن ترى وجه زوجها ولو مرة واحدة في حياتها، قصة أخرى تتحدث عنها الأسيرة «ص.ك»:
«لحد الآن ما شفت شكل وجه جوزي ولا مرة واحدة، تخيلت شكله، وقلتله، كانت هاي نكته، في واحدة من الرسائل بقولي جوزي أكيد إنتي مش متخيلة كيف شكلي، أنا رديت عليه وكتبت، بتخيلك أحمر، وضعيف، وفي وجهك نمش، ههه، بعدين طلع جوزي أسمر وقصير، بقول ههه يا الله انخدعت في خيالي.
تعرفت على جوزي كيف؟ أول ما دخلت السجن بعتلي رسالة يقويني، وبعدها ضل يبعتلي رسائل، صرت أحس في كلماته إنو في حب بينا، ضلينا لاعترفنا لبعض. جوزي بروح من السجن في العام 2023، صارلو في السجن 20 سنة، أنا ممنوع من زيارته لأني مرفوضة أمنياً، أنا بحلم في اليوم الي بدي أكون فيه أم، ويطلب مني ابني أجيب الو اشي، قبل فترة كان يتواصل معي جوزي (ج.ع)، أقولوا معقول يصير عنا ولاد، بقولي إن شاء الله، بقولوا أنا بخاف لما أفكر في الموضوع، بخاف في يوم من الأيام ما يلاقينا موجودين. أنا مثل جوزي (ج.ع) محبوسة في سجن، أنا مش قادرة أكون أم، أنا مش قادرة أعيش في دار لحالي وأستقر فيها من دون ما حدا يدخل فيّ، أنا صحيح الي شخصيتي، بس الكل بدخل فيّ، عشان جوزي مش موجود، هذا هو مجتمعنا. اليوم كنت أحكي لصديق الي، مش مستوعب كيف بدي أشوف جوزي لأول مرة، بدي أشوف كيف بضحك؟ كيف لما يزعل؟ لما يحك راسه؟ هاي التفاصيل، هذا جوزي، إحنا عايشين في الخيال، صرت أخاف إني ما أشوف هذا الإنسان، وين أحلامنا الي بنيناها زمان وخلصنا منها، في خيالنا صار عنا ولاد، وفكرنا وين بدنا نحط ولادنا، شو بدنا ندرسهم؟ شو بدنا نعلمهم؟ وكل اشي؟ بضل أقول لأهلي بس يطلع جوزي (ج.ع) شو بدي ألبس؟ شو بدي أعمل؟ بقول لـجوزي (ج.ع)، بقولوا بس تطلع، بدي أحط مسكارة، وبدي أعمل شعري، قالي تعالي في البجامة وخلص ههه، جننته، بدي أعمل وأعمل، وبدي ألبس كعب، قلتلو خلص بدي أصير بنت، وبدي أشوفك ههه، بس بخاف إنو كل هاي الأحلام تضيع».

ظهور نتائج الثانوية العامة قصة لأسيرة تقدم ابنها للامتحان في الثانوية العامة وهي داخل أسوار السجن، تقول الأسيرة (ك.ق):
«نتيجة الثانوية العامة لابني كان يوماً حزيناً حينها، كانت معي في السجن الأسيرة (ق،س) وكانت ابنتها مثل ابني، ثانوية عامة، قال المذيع في الراديو بنت (ق،س) نجحت، وجابت 84.1، وما حكى اسم ابني وأنا شو طبعاً خلص انقهرت، بستنى في اسم ابني يطلع. كنا يومها طابخين كوسا، طبعاً كنا نحفر الكوسا من خلال عصاي، أنا واقفة على الراديو وملزق فيه، وكلي أمل بستنى، صاروا صديقاتي زعلانين علي ويقولوا شكلوا ابنها راسب، شوي بلشت الناس تتصل، خواتي، يخبروني ابني نجح، شعوري صار مخلوط بين الفرحة والحزن، إنك فرحانة بنجاح ابنك بس مش موجودة معاه، الكل صار يتصل، صار كل البرنامج إلي، المذيع صار يحكي البرنامج اليوم برعاية أم أحمد... اتصل علي أحمد، وشخصية أحمد خجول جداً، وقالي الحمد لله إمي نجحت، وما تخافي علي، الحمد لله، كلمات قليلة جداً، كان هو أكثر واحد حاسس في».

التخلص من ذكرى عزيزة، تتحدث عن هذه القصة الأسيرة (م.غ) من خلال قيام الضابط الإسرائيلي بإزالة سنسال يحمل صورة فلسطيني قتل على الحاجز الإسرائيلي، ورميه في حاوية القمامة، تقول:
«كنت لابسة سنسال عليه صورة إنسان عزيز قتله الجنود من دون سبب، لمجرد الشك فيه، الضابط مسك السنسال، وقالي هذا الي كان بدو يعمل عملية، قلتلو لا ما كان بدو يعمل عملية، انت طختوه من دون سبب، مسك السنسال ورماه في سلة الزبالة، بطريقة بشعة».

التفتيش العاري وهو التفتيش الذي تجبر فيه الأسيرة على خلع كامل ملابسها وتفتيشها في وضعيات مختلفة؛ كالقرفصاء، فاعتبرت (ن.ع) أن أسوأ ما مرت به «هو التفتيش العاري نظراً لانتهاكه خصوصية جسد المعتقلة. ومن ثم عدد المرات التي يتم تفتيش المعتقلة بها بهذا الشكل، فتحدثت عن ذلك بقولها:
«في العادة تكون مجندة، وبدخلوكي على مكان، إنتِ ما بتعرفي إذا كان هذا المكان يوجد فيه كاميرا أم لا، في بعض الأحيان يكون خرابة، أو غرفة العتاد، مزبلة، تطلب منك المجندة أن تخلعي كل ملابسك، في أحسن الأحوال قد تسمح لك بابقاء ملابسك الداخلية، ولكنني عندما دخلت في ثالث تفتيش عاري في الجلمة «كيشون»، طلبت مني خلع اللباس الداخلي، هنا أنا انفجرت خاصة أنني كنت في أيام الدورة الشهرية، صعب أن تنزلي لباسك الداخلي بكل ما فيه، الموضوع مؤلم وموجع، هناك من يضع يده على جسدك، من يتحسسك، وبرفعوا الصدر وبتحسسوا تحته، تحت الابط، وعندما دخلت أول يوم إلى السجن، طلبت مني أعمل جلوس قرفصاء، لتفتيش جسمي من تحت، عند فتحة الشرج، إذا أنا مخبية اشي هناك، الوضع مقرف، ويؤثر على المعتقلة بطريقة نفسية مش طبيعية، في بعض المرات المجندة عندما كانت تريد تفتيشك تفتيش عاري، بتكون مكتفة ايديها، وتأشر بإصبعها إرفعي، من غير ما تحكي بس تأشر باصبعها، حتى تخلعي ملابسك، بتشعري أنها تنظر الك نظرة خطأ، إمرأة مثلك مثلها، ولكن نظرتها خطأ، تطلع عليكي من فوق لتحت، وتطلع على أعضائك بطريقة سيئة، هذا كان موقف صعب».

أما في الحالات التي ترفض فيها الأسيرة الخضوع لهذا التفتيش العاري، فإنه يتم ضربها بقوة، أو جلب الكلاب لها، تقول الأسيرة (ص.ك) عن تجربتها:
«إجت مجندة بتحكي الي اشحلي كل اشي، بقول لا، أنا مش مدنية «جنائي»، أنا أمنية «سياسي»، أنا ما في معي مخدرات، قالت لا، لازم تشلحي، رفضت، إجت بدها تشلحني أواعي بالغصب، دفعتها، صارت تنادي السجانين، أجى واحد اسمه شاهر، وإجت كمان واحدة، ضربوني بقوة، بقطعة حديد على رجلي وإيدي وكل جسمي، مسكوني من شعري، وسحبوني على غرفة ثانية، وحطوني في زنزانة، هاي الزنزانه كاينه فيها مدمنة مخدرات، كانت تعمل الدورة الشهرية وتحط الدم على الجدار، ما قدرت، ما تحملت، ضليت واقف عند الفتحة الصغيرة على الباب، بدي أشم هوا، لما وصلت المحكمة، إمي أول ما شافتني قالتلي مالك اشي إنت؟ قلتلها لا أنا منيحة تمام، بقول لأخوي، ابعتولي محامي، كان الدم ينزل من ايدي، دخلوا علي محامي، قلت للمحامي خلص رجعني على السجن بسرعة، ما بدي أضل هان في المحكمة، حلمي صار أروح عن البنات في السجن، أنا تعبانة، وصلت عند البنات، أغمي علي، بعدها شلحت، كل جسمي أزرق، صاروا البنات يطرقوا في الباب، إنهم يوخذوني على العيادة، رفعت عليهم قضية، قالوا إني بستاهل الي صار فيّ، لأني رفضت أتفتش عاري».

إن هذه القصص تبين بأن الجسد هو الموقع الرئيسي الذي تمارس عليه السلطة الاستعمارية عنفها الاستعماري بحيث أن فكرة الانتهاك تنظر إلى الجسد أنه قابل للمشاهدة من قبل الجندي أو الضابط بصورة «الآخر»: الإرهابي، المجرم، المتسّخ مقابل «الأنا»: الجندي المتحضر، الديموقراطي، النظيف. إن هذه القصص يراد لها أن تفتح أمامنا المجال لكثير من التوقعات التي من الممكن أن يفتحها من يتبنون أشكال الخطابات المختلفة، فهناك الخطاب القانوني، وخطاب حقوق الإنسان، وخطاب الضحية، وخطاب الجلاد، وخطاب الممول، وخطاب المستعمَر. بيد أن هذ النص هدفه نقل السردية كما هي عليه، ليكون الواقع أكثر صدقاً، لا يحتمل التأويل أو إعادة صياغة. يأتي ذلك من خلال الروايات الشفوية التي تركز على توثيق تاريخ مهمشي المهمشين.