تُغرقُنا الرّأسمالية بمشهديّة من الإشاراتِ، وقد يُظنُّ بدايةً أنّ السّلعةَ وحدها هي من تتسيّدُ المشهد، قبل تبيان أنّ عمليّة الإغراق تتخطّى الفرد المتحكِّم بالسِّلعة، إلى المروِّج والمُستهلك. ويختلفُ مدى حيويّة التأثير ابتداءً من وضعيّة السّكون عند المُستهلك الذي ينتمي عادةً إلى طبقاتٍ دُنيا، وصولاً إلى الحيويّة المُطلقة التي تحتكرُها الطبقات الأعلى في المجتمع. ألا نعيش في زمنٍ البطولةُ فيه من صناعة «المؤثّرين» -لا العُمّال ولا المثقفين- من أصحاب المُبادرات ورياديّي الأعمال (الإنتربرونرز) و«عباقرة/نيردز» تبسيط العُلوم؟ من هنا تحتاج هذه الطبقة إلى الاستعاضة عن دِعتها العَدميّة باللجوء إلى مَعنى ولو كان زائفاً، فلا تجد ما تسعى إليه إلّا في مُروّجين مَهَرة على قدرٍ عالٍ من البذل الدّعائي، ومستوى من «الخبرات» التي يُصوَّر تحصيلُها على أنّه لا يحتاج منك سوى نبذ الكسل، لكنّ الخبرات في حقيقة الأمر، امتيازٌ طبقيّ محصور بأمكنة ووضعيّات اجتماعيّة، تُقصي وتُبعد الآلاف من النّاس وتُلقي بهم في زوايا مُعتمة.
«حجاب - 3» لسركيس سيسليان (أكريليك على ورق - 2020)

فرضَ القاموس النيوليبرالي نفسَهُ على المساحات الاجتماعيّة والثقافيّة، بفعلِ انعدام بروز ثقافة مُضادة تحملُ على عاتِقها مسؤولية المواجهة، خاصّة بعدما انهارَت المنظومة الشيوعية وتذرّرَت معها كلّ البدائل المُتاحة لحيازة رؤية مُختلفة، أو حتّى مفردات تبتعدُ في مؤدّياتِها ومآلاتِها عن شروط ذلك القاموس. كما تغلغلت الانعكاسات الاجتماعيّة لهذه الهيمنة، بحكمِ الدّعاية، وتلقُّف الطّبقات الوسطى لها التي تبنّتها فبدأت تقطفُ ثمارها الفاسدة، وتقوم على خدمتها طالما أنّها تُرسّخ القِسمة والأدوار التي تبدو جديدة، وهي قديمة وموغلة في الرّثاثة. وبما أنّ هذا الامتياز محصور وموجّه، ويدعم ذاتَه بالكثير من الإشارات الحيوية، راحت في المقابل تظهر ملامح العفن والرّكود أو الإشارات الميّتة جرّاء هذه العمليّة. وبذا يُصبحُ الاختلاف في زمن الليبرالية قائماً بين الـ«حيّ» أي المُعترِف بوسائل الدّعاية والمهضوم في ماكيناتِها، وبين الـ«جثّة» وهذه يشغلُها العاطلون عن العمل والمُدمنون على مُختلَف مشاربِهم سواء أكانوا مدمني مُخدّرات وعقاقير، أم إصدارات الإكس بوكس والمانغا والأفلام الإباحيّة العنيفة، أم حتّى مدمني التّدين، النّزعة الأفيونيّة الأقدم.
يصفُ الكاتب الإيطالي فرانكو بيفو بيراردي في كتابِه «أبطال» وضعيّةَ هذا الجيل الذي باتَ يعيشُ حياتَه اليومية على وقع الإنتاج ما بعد الصناعي، بأنّه «جيلٌ تلقّى الكلمات من الآلات أكثر ممّا تلقّاها من أبويه». تختصرُ مقولة بيراردي الكثير من العناء؛ لما تستوعبُه من إيجاز بلاغي تمتزجُ فيه الإشارات بالعوامل الاجتماعية، الإشارات التي تطفو للعيان ويُمكنُ تفكيكُها سيميولوجياً، والعوامل الأعمق قليلاً، إنّها ليستِ الأثير ولا الرّوح، بل المادّة الفاعلة، وهذا فيه شيءٌ طفيف من الماركسية، وأشياء من تيّار البنيويّة الجديدة التي يحلو لها التّعامُل مع مصفوفة من العلامات الميّتة، ابتداءً من الله الميّت وصولاً إلى الإنسان والمؤلّف الميّت. كذلك يختارُ بيراردي نماذجه في «أبطال» بوصفهم مجموعة من المُخدَّرين الموتى (الزومبيز) ومدمني ألعاب الفيديو الذين يتحرّكون فقط وفق قوانين هرمونات المكافأة في الدّماغ، إنّها التقاطةٌ نابهة من السّيميولوجي ولكنّها ليست كافية. فبالانتقال إلى النّظر في مآلات ونتائج التفكيك عند بيراردي وتعامله مع العلامة الجُثَّة، نجدُ أنّ نتائجه لا تبتعد كثيراً عمّا وصلت إليه التيارات العدميّة، إنّه رمى في وجهنا بـ«حالات انسحابيّة» ونحن لا نقوى على تطبيبِها في أيّ «مصح» لأنّ المصحّ أساساً لا يُؤخذ على محمل النّفع في مدرسة بيراردي، ولأنّ معايير الصّحة تعني انقلاب الشّرط الاجتماعي جذريّاً.
هذا عن أبطال بيراردي الموتى الخاضعين للهرمونات والعوارض الانسحابية، وهم في حقيقة الأمر يخضعون للعوامل الاجتماعية أكثر من النّفسية. لكن ماذا عن الأبطال الموازين؟ أبطال يُمكنُ لـ«حسّ المبادرة» أن يُحسّن النّواقل العصبيّة في أدمغتهم أكثر من توريد سلاسل جديدة من المانغا، ويمكنُ لوجبة سريعة من برامج تبسيط العلوم أن ترتقي بهم إلى أعلى درجات النيرفانا المعرفيّة، هؤلاء ليسوا موتى خدّرهم عنفُ الأفلام الإباحية، ولا يمتلكون استعداداً ذُهَانياً لارتكاب جريمة قتل في حال تأخّرت سلسلة المانغا عن الصّدور أو الآيفون الجديد، بقدر ما يمتلكون ردّةَ فعل تضحويّة، ومُعجماً مُفخّخاً بإصدارات النّجاح وتعاويذه الطاردةِ الكسالى والسّلبيين، وكميّةً هائلة من الخبرات يُمكنُ أن تُسفحَ في مُبادرة «تطوّعيّة» واحدة لتُضَافَ إلى CV أنيق... كم هذا جميلٌ حقاً!
يبقى السُّؤال ما السّر وراء هذا التّوازي بين هؤلاء الـ«أبطال» الحقيقيين؟ أبطال يرضى عنهم المُجتمع ويُمسكون بأدق تفاصيل العمل والمعرفة في آن واحد، ولا طريقة للجم أناهم المتضخمة التي تُراكم قبولاً وثروات مادّيّة، من دون أن تبدو عليهم أيّ عوارض انسحابية لإدمان البطولة، في ظلّ ظرفٍ عالمي تتحلَّلُ فيه مفاهيم مثل دور المثقّف أو النّقابة والتنظيم. وإذا رفضنا ذلك النّموذج أو لم تنطبق علينا شروطه، هل سننجو من مصير «أبطال» بيراردي، هل ستنال منّا اللّعنة اللّيبرالية وتحوّلنا إلى موتى مُخدّرين لا روحَ فينا؟ اللعنة التي تحدّث عنها إنغلز: إمّا الاشتراكيّة وإمّا البربريّة. ولمّا افتتحتُ النّص بإشارة حول الحقيقة، تستحضرني الآن إشارةٌ حول الكذب، يروي فيها فرويد قصّته وهو متوجّه إلى إحدى المُدن التشيكيّة، فيجلسُ رجلٌ بجواره، ويسألُه إلى أيّ المدن تتّجه، فيجيب فرويد: أذهبُ إلى مدينة كذا، ينظرُ إليه الرّجلُ بازدراء ويقول: إنّك بالفعل تذهبُ إلى تلك المدينة، ولكنّكَ تستخدمُ أسلوباً عالياً من التّمويه، لا تقول اسمَ مدينة أُخرى فأعرفُ أنّك تكذب، بل تقول الحقيقة لتوهمني بعكس ذلك، ولكنّني في الحالتين أعرفُ أنّكَ تكذبُ؛ للأسف! هذا هو الفرق بين موتى النيوليبرالية وروّاد أعمالها وعباقرتِها.