إن السينما الشاعرية، أو ما يُمكن أن نُطلق عليهم شُعراء السينما ينصرفون إلى ذواتهم أكثر من اهتمامهم بالواقع. يتفرّدون بخلقٍ يسير بمُحاذاة الواقع ولكنه لا يتوحّد معه بشكلٍ كُلي، بيد أنه في لحظةٍ ما، ستختلط الأمور، سيشعُر المُشاهد بالارتباك، وسيجد صعوبة في تعيين الحد الفاصل بين المُنتج الإبداعي، وحياة صاحبه الخاصة. هكذا ربّما هي السينما بالنسبة إلى المخرج الإيطالي الراحل مايكل أنجلو أنطونيوني (1912 – 2007). الواقع المحض في نظرهِ ليس كافياً لصنع فيلم جيد، لهذا يصوّر المشاهد من دون ضرورة ماديّة للمنتج الفيلمي أو القصة. إنه يصوّرها لضرورة جوهرية، وحيٌ مُبارك يقوده في موقع التصوير، وفي غُرفة المونتاج حيث تتجلى الفكرة التي كان يبحث عنها. إنها عملية إبداعية غريبة، تبعثر الفيلم إلى أجزاء متناثرة، فيتوجّب على المشاهد أن يُلملمها. تجثم ثُلاثية الحداثة لأنطونيوني («المغامرة» (1959)، «الليل» (1961)، «الكسوف» (1962)) على إيقاعٍ راكد، وتستقرّ على ضجرٍ يُغلّفه اضطراب اجتماعي. لا يغُرنّك البُطء والتمهّل في استعراض فوضى الحواس والعاطفة، فهذه منهجيّة لها مردودها الإبداعي. يقول غاستون باشلار في كتابه «جدليّة الزمن»: «رُبما تُبيّن لنا نظرية الأجساد الثابتة أن الأشكال الأشد استقراراً تدين باستقرارها إلى تنافر إيقاعي» أي أن خلف ركود الواقع وانطفاء الأحداث تنافُراً عاطفياً وانحرافاً في بنية النفس يتعارضان مع الشكل الخارجي لسير الأحداث. هنا قراءة نقديّة، زمكانية لثلاثيّة أنطونيوني: «المغامرة» (1959)، «الليل» (1961)، «الكسوف» (1962).
مشهد من فيلم «المغامرة» (1959) لأنطونيوني.


الزماني: الحاكم المعنوي
لا يتعرّض أنطونيوني للزمن بطبيعته السائلة، ولا يلجأ إلى القفز بمُددٍ زمنية لتعريف المُشاهد بأجواءٍ قصصية موازية يُمكنها أن تكون ظرفاً ذا قيمة لدى بعض المُخرجين الآخرين. إنه يمنح الزمن قيمته الحقيقية تاركاً للّقطة أن تتشبّع بالواقع، وأن تأخذ موقفها الزماني وفق حدود الواقعي. سيشعُر المُشاهد في بعض الأحيان أن المُخرِج أغلق عليه اللقطة وحبسه في مشهديّة رتيبة، هي عبارة عن متوالية من اللقطات الطويلة التي تمنح المتفرّج شعوراً مستقلاً بالزمن. شعور يلتفت إلى حضور الظرف الزماني كمُدد مُستقلة يختبر داخلها الشخصيات حيواتها. يصبح الزماني هو الكوني الذي يُحيط بكُل شيء، لا يُمكن الفرار منه بأي شكل، إذ يظهر على أجساد الشخصيات وداخل أرواحها. إن تطوير الأُلفة مع الزمن هو المُفتاح للاستمتاع بمُشاهدة أنطونيوني، لأن معرفة الزماني ليست سطحية أو حدسية في متنها. رُبما تبدو كذلك حين نُعاينها في مستوى مادي، ولكنها جوهريّة في أساسها، لا يُمكن تحديدها على وجه مُطلق. وإن كانت مُفرطة في عاديتها إلا أنها تخلق تلميحات للمُتلقي. إذا نظرنا إلى الزمن من منظور علمي أو فلسفي، سنجده فاقداً لمعناه في ثلاثية أنطونيوني المذكورة آنفاً. نقصد هنا قيمته الجوهريّة، وفق بيرغسون مثلاً، الذي يقسّم الزمن إلى مُدد تضمّ الأحداث والوقائع، رابطاً إيّاها بالتغيير الحاصل؛ الزمن مجرّد من قيمته الحقيقية ما لم يَحدث فيه تغيير حقيقي. إذا قمنا بقراءة ثُلاثية أنطونيوني كمُنتج بصري على خلفيّة فكرة بيرغسون، سنرى أفلاماً تعتمد على الحد الأدنى من الوقائع والأحداث، حيث الزمن فيها مُجرد سيلان في العدم، من دون أي تأثير مُحدد، وهذا ما يتقاطع مع طبيعة السينما بشكل عام. غير أن الحدث أو الواقعة بالنسبة إلى أنطونيوني هي مُجرد عنصر عارض يُعنى بنقل وتسيير الحياة بشكلٍ طبيعي. لا يقدم أبطاله على أفعال استثنائية حيث إن الطبيعي/العادي هو المُهم، وهو ما يعادل الحياة.
إن التفكير بالزمن داخل الثُّلاثية بشكل مُجرّد ومُنفصل عن الشخصيات ووقائعها هو تدمير للواقع، هذا هو مضمون برغسون. وهكذا يُمكن أيضاً أن نرى ثُلاثية أنطونيوني المُجرّدة من الحدث المُهم، الفاقدة للزمن بديناميكيّته الشائعة في السينما. الأحداث في ثلاثيّته مُنقطعة عن سياق الزمن بطبيعته المتدفّقة، لكنها متصلة بالزمن كوجود ثقيل وبطيء، يؤلِم ويضجر، ويوصد الشخصيات والمشاهد داخله. فمع الثقل الزمني على الشاشة، يضطر المشاهد إلى التنبه للتفاصيل والغوص في دواخل الشخصيات. هذا تحديداً ما يميّز أنطونيوني عن معظم صنّاع السينما، بميله إلى اللعب داخل منطقة العادي، وتصوير الطبيعي داخل إطار اليومي لطبقة اجتماعية مُعينة. بتشريحنا لثيمة الزمان لدى أنطونيوني، نعي انحلال الشخصيات، ونفهم لماذا تحمل هذا القدر من الثقل والاغتراب.

المكاني كاستعارة لوحدة شاسعة
يتعرّض أنطونيوني للمكاني بطُرق وأساليب تتّسق مع فكر المشهد، مستخدماً منهجية الجمال الوحشي. يختبر شخصياته في حمّى خرسانية أو داخل كُتل طبيعية. يرصُد تحركاتها بمُحاذاة الأبنية الضخمة، وينتقل بكاميراته بين حوائط العمارة ما بعد الحداثية بضخامتها وبجمالها الوحشي الذي يتضاءل الإنسان أمامه. لن يمنع المشاهد نفسه، من التساؤل عن التناقض ما بين قدرة الإنسان على تشييد تلك الأبنية الضخمة، وبين إخفاقه بالعيش داخلها. من الخارج، يأخذنا إلى مساحات البيوت الداخليّة، الباهظة ظاهرياً وماديّاً، في حين أنها تفقد ما يجعلها منازل حقيقيّة. يُناقش غاستون باشلار المكاني بطبيعته الظاهراتية والمادية في كتابه «جماليات المكان»، مشيراً إلى أهمّية المنزل قائلاً: «في حياة الإنسان يُنحّي البيت عوامل المفاجأة ويخلق استمرارية. ولهذا يصبح الإنسان من دون البيت كائناً مُفتّتاً. فالبيـت يحفظه من عواصف السماء وأهوال الأرض». إن استمرارية المنزل لدى باشلار هي تحديداً ما يفتقده أبطال أنطونيوني، كما لو أنهم غارقون في مُدّة زمنية مُعيّنة لا يستطيعون الفكاك منها. بالرغم من هذا الثقل، تغيب الألفة بين المكان المستقر المتمثل في المنزل، وبين الشخصيات القاطنة داخله. تبقى في غربة عن أماكنها رغم تواجدها داخلها. غربة تتماهى مع الاستقلال العاطفي للشخصيات، حيث تغيب عنها محاولات التوحّد مع المكان لأن كُل شيء في عالم أنطونيوني ناقص ومُجتزأ في مشاعره وفي تعبيره.

مشهد من فيلم «الكسوف» (1962)

المنزل في أفلامه مُجرد حوائط فارهة وأثاث فاخر، وتصاميم مبهرة، إلا أنها خالية من الأحلام والذكريات. هذا ما يخلق نوعاً من المُفارقة: كيف لهذا الجمال أن يُحفّز شعوراً عميقاً بالوحدة؟ لفهم هذه المفارقة، يُمكن أن نعود مجدّداً إلى باشلار في الكتاب ذاته: «إن رسم صورة مبالغ في جمالها للبيت يُلغي ألفته». لعلّ هذه البهرجة الكاذبة لا تُضيف بقدر ما تأخذ من الإنسان، فالصورة الجمالية ترتبط بطبقة اجتماعية مُعينة ــ وهذه الطبقة تحديداً هي التي يتتبّعها أنطونيوني في ثُلاثيته ــ يظهر الجمال على شكلها الخارجي، فيما تُخفي المُعاناة ونوعاً من الانفصال الاجتماعي. هنا الجُدران والأثاث والملابس تنتصب كطبقات عازلة تسدّ منافذ التواصل بين أفراد هذه الطبقة.
قد تكون نزعة الاغتراب عن المكان هي مُجرّد انعكاس للانقطاع العائلي للشخصيات. تراها من دون روافد أو جذور، مجرّدةً تماماً من الروابط المُقدسة مثل البيت والعائلة. حتى الحفلات الصاخبة لا تُخفي وراءها رمزاً أو ثنائية قيمية أو أنظمة أخلاقية تمد بأوصال الترابط، حتى الأسرة تبدو مُفكّكة بشكل شبه كامل، وهذا نراه في بداية فيلم «المُغامرة» (L'Avventura) الذي يستهلّ سرديته باعتراف ذاتي للأب يظهر مدى العُزلة والانفصال بين الآباء والأبناء. تنكشف تلك النُّقطة أكثر في فيلم «الكسوف» (L'Eclisse) بين فيتوريا وأمها، التي لا تأبه سوى لمُقامراتها وأموالها وحجم المكسب والخسارة.

ثُلاثية الاغتراب: «المغامرة»، «الليل» و«الكسوف»
يمكن القول إن ثلاثيّة أنطونيوني هي ثلاثيّة الاغتراب. يُقدّم فيها ثلاث أقاصيص عن الطبقة البرجوازية في مُجتمع ما بعد حداثي. يترك للقصّة أن تغوص في رتابة الواقع، بما يتناقض مع الإيقاع السريع لفترة ما بعد الحداثة. رُبما أراد أنطونيوني من هذا الإيقاع المتمهّل، أن يكون خلفيّة متينة لتشريح الطبقة البرجوازيّة، الذي لم يكن شائعاً وقتها. من شأن هذا الإيقاع أن يفصل ما بين الاستعراض الضجر للطبقة البرجوازية حتى في في حفلات أبنائها الصاخبة، وبين الإيقاع المندفع للطبقة العاملة في المجتمعات الرأسمالية، والذي يستهلك الجسد والعقل والزمن.
في المُجتمعات الرأسمالية يشعُر العامل، وفق ماركس، بالاغتراب عن نفسه، وعن الحياة الاجتماعية والاقتصادية برمّتها في نظام يستهلكه لتحقيق الربح. يُرجع ماركس هذا الاغتراب لأسباب عدّة، أولها عدم قدرة العامل على تحقيق ذاته في العمل الذي لا يُراعي الجُهد المادي ولا المعنوي. هكذا يفشل العامل في التعرّف إلى رغباته، تتلاشى شخصيته تدريجيّاً، لينخرط في إيقاع ينسيه فردانيته. على الجهة الأخرى، حين ننظُر إلى الاغتراب البرجوازي المرصود في ثُلاثية الحداثة، سنُلاحظ اختلافاً في نمطَي الاغتراب: يعاني أبناء الطبقة البرجوازيّة من الفراغ العاطفي والفكري والمادي، فيما يخاف العُمّال من التلاشي.
في الفيلم الأول «المغامرة» (L'Avventura) في الثلاثيّة تختفي شخصيّة آنا فجأة من على الجزيرة، ومعها أي أثر لها، لينخرط حبيبها مع صديقتها المُقرّبة كلاوديا في علاقة غرامية خلال رحلة بحثهما عنها. يقع الانجذاب الجنسي والعاطفي بين الطرفين عقب اختفاء آنا مباشرة، فتقول كلاوديا في أحد المشاهد: «كل شيء أصبح سهلاً، حتى نسيان الألم». هنا تحديداً تكمن المُعضلة، حيث الفراغ والضجر والنسيان تشكّل الملامح الأساسيّة لشخصيات أنطونيوني. تحاول الانخراط في أفعال جانبية، بغية تشتيت الذات والذوبان في واقع موازِ وثانوي من شأنه أن يُفقد الفعل الرئيسي أهمّيّته: الذات الإنسانية الجوفاء لا تحمل إلا رغبات كامنة.
يعرض أنطونيوني إشكالياته في محيط أنثوي، حيث شخصياته الرئيسية الثلاث نساء شابات. من خلال الأنثوي، يختبر المأزق الوجودي للطبقة الاجتماعية. تشعر شخصياته الرئيسية دائماً بانعدام الرضى عن العلاقات الاجتماعية، وبخواء تسعى إلى ملئه على الدوام، وتفشل دائماً في ذلك. يتسلّل الخوف ويخترق فضاءاتها الفاخرة، يتمكّن منها قلق مواجهة مصير النسيان.
في أحد سياقات ثاني أفلام الثلاثيّة «الليل» (La Notte)، ترصد الكاميرا عبر لقطات متتالية، فتاة سمراء تؤدّي عرضاً لا يخلو من الإغراء في كازينو ليلي. وعندما تنثني العارضة وتنفرد، تلمس ليديا جيوفاني لتُثير انتباهه، ويدور بينهما حوار صغير لكنه مكثّف. لدى سؤالها عما يدور في رأسها، تجيب ليديا: «ليست لديّ أفكار في الوقت الحالي، ولكنّي أتوقع إحداها. أشعر بقدومها»، ثُم تُشير إلى رأسها ضاحكة «هُنا». لا يمكننا إلا أنّ نشكّك في حقيقة وجود أيّ فكرة واضحة في رأس ليديا. فهي فقط تودّ لو تستطيع أن تقبض على شيء ما، وحين تحاول الوصول إليه تصطدم بالخواء الفادح داخلها، فيما تُباغتها ردّة الفعل الباردة لحبيبها.

مشهد من فيلم «الليل» (1961)

عوالم أنطونيوني فارغة ضمنياً من العاطفة المحضة. وفي محاولة شخصياته الفرار من الفراغ، فإنها تنتهي غالباً بإقامة علاقات سطحيّة. يسعى معظم شخوصه، خصوصاً الذكور منهم إلى الانغماس في المتع الجنسيّة، التي تلهيهم عن واقعهم العدمي. هناك وجه من الذات الإنسانية، يظهر بوضوح على الشخصيات الأنثوية التي ثمة ما يُحيل بينهن وبين المُتع الآنية. يستبقيهن أنطونيوني في منطقة مُحايدة، مُنعزلات في مساحاتهن الخاصة، فاقدات للزخم الكافي للوصول إلى أيّ نتيجة مُرضية. هذا الركود يوضح لنا رؤية كارل ماركس عن المُجتمع الرأسمالي، حيث يبدو الرأسماليون راضين باغترابهم ظاهريّاً، لا بل يشعرون بالقوة والراحة أيضاً.
يخلق أنطونيوني شخصيات مبتورة على الشاشة، يقطعها عن الماضي بشكل شبه كامل. وإذا نظرنا إلى التجسيد البصري للماضي، سنعثر على ثلاث طُرق أساسية: الفلاش باك، الحوارات، والموتيفات الصوتية والصور وغيرها من الرمزيات. وبما أن السينما فن بصري، لذلك فالحوار هو أقل هذه الأساليب تأثيراً، غير أنه وسيلة أنطونيوني لاستحضار الماضي. لا تكشف حواراته محطّات معيّنة بقدر ما تبدو نحيباً على ذكريات غير مرئية. مُجرد أصوات عارضة وخيالات جامحة إلى الماضي تسرح على لسان الشخصيات على مضض. كأنّ أنطونيوني يعمل على إفشال الذاكرة، ليترك الشخصية تتخبّط في مجابهة ريح الحاضر.
في ظل مجتمع ما بعد حداثي؛ يغترب الإنسان عن الطبيعة، يتعلّق أكثر بالخرسانة والكُتل الإسمنتية، ويتعامل معها كأنها خياره الوحيد، بيد أن أنطونيوني يرى عكس ذلك. في نهاية أفلامه، تنفلت الشخصيات إلى الطبيعة، هاربة إليها من دون قصد. لا نقصد الطبيعة كأنهار وغابات وجبال، بل روافد لتلك الأشياء؛ مروج خضراء أو منطقة تطل على فراغ سماوي هائل. في «المغامرة» يُغلق الفيلم على لفتة إنسانية مُلتبسة من كلوديا نحو ساندرو، فيما يجلس ساكناً على مقعد يُشرف على الخلاء، وتلوح الجبال على مدّ النظر. في «الليل»، يتجوّل جيوفاني بصُحبة ليديا في إحدى المروج الخضراء، هائميْن بعشوائية، ويُنهي أنطونيوني الفيلم بتحويل الكاميرا عنهما فيما تتمنع عنه ليديا ولكنها لا تود المقاومة بشكل صارم. هنا يغلق أنطونيوني الفيلم بصورة المروج الخضراء الساكنة. حتى في فيلمه الثالث «الكسوف» يستنبط لغة الطبيعة الساكنة مثل صوت جريان الماء، والندى على أوراق الأشجار، وإيقاع الشوارع الخالية والسكون الكوني. كأن الطبيعة عنده هي الاستثناء الوحيد الذي يمكن أن يستوعب كُل الصراعات والشطحات الفكرية. كأنها المفر الوحيد لهذه الكائنات المسكينة، غير أن ليس هناك خلاص آمن لها، فأنطونيوني لا يوجّه شخوصه كُلياً نحو الطبيعة، إنما يوقفهم عند نُقطة مُعينة ويُغلق الفيلم.