أجريت هذه المقابلة مع صيدلي يدير منذ خمسين سنة صيدليّة في إحدى ضواحي بيروت. في الأشهر الأخيرة، تضاعف عدد الباحثين عن الخلاص في أدوية الاكتئاب والمهدّئات، فيما لم يكفّ مدمنو المخدّرات والعقاقير عن مناوراتهم المستمرّة للحصول عليها وإن بتهديد السلاح أحياناً. هذه حالات تتكرّر منذ سنوات، غير أن الأشهر الأخيرة جعلت من الصيدلية مسرحاً رمزيّاً لأبطال تشكّل الأعصاب الراجفة ملامحهم المشتركة، ولا تستكين إلا بتناول هذه العقاقير. فضّل الصيدلي السبعيني عدم ذكر اسمه ولا مكان صيدليّته، لكيلا يتعرّف إليه من يذكرهم من المدمنين والمرضى خلال المقابلة.
كيف أثّر الانهيار على سوق أدوية الأعصاب والاكتئاب في صيدليتكم؟
فتك القلق بعدد هائل من الناس ممن باتوا يجدون في الصيدلية السبيل الوحيد للحصول على قدر ولو ضئيلاً من النوم. ازداد الطلب على أدوية مثل ستيلنوكس الذي يساعد على النوم. في الأيّام العاديّة، تصلنا أكثر من 15 وصفة طبيّة من هذا الدواء للزبائن والمرضى، وهو عدد مرتفع مقارنة بالسنوات الماضية. يكثر الطلب أيضاً على دواء ليكسوتانيل، لإخماد القلق اليومي واضطراباته، ودواء ديانكسيت لحالات القلق والاكتئاب أيضاً. لا يحتاج الحصول على ديانكسيت إلى وصفة طبيّة، لكنّ ارتفاع الطلب عليه من قبل الشبان والشابات أجبرنا على بيع ظرف منه لكل زبون وليس علبة كاملة.

(رسم: فرانسوا الدويهي)


من هي الشريحة العمرية الأكثر إقبالاً على شراء هذه الأدوية اليوم؟
لم يتغيّر الأمر كثيراً بالنسبة إلى فئة الشبان المدمنين على هذه الأدوية منذ ما قبل الأزمة. لكنّ اللافت اليوم، هو نسبة النساء اللواتي بتن يلجأن إلى مضادات الاكتئاب والمهدّئات. معظمهن يعانين من الأرق. حالات كهذه لديها استعداد جدّي لكي تتطوّر إلى الإدمان. بعض الزبائن لم يعودوا يكتفون بتناول أقراص ستيلنوكس مساء، بل في النهار أيضاً. هناك من بات يبتلع ما يقارب 10 أقراص من هذا الدواء في النهار الواحد. في حالات كهذه نجد أنفسنا عاجزين عن تلبية الزبائن، واستهلاكهم الوافر لها. في حين أن لدى قرص واحد من الستيلنوكس القدرة على طرح أي بشري في الفراش.
وإذا أردنا أن نحصي الفئات العمريّة، تشكّل تلك المُراوحة بين الثلاثين والخمسين عاماً النسبة الكبرى. بالطبع لا نقول إن أبناء العشرينيات ناجون تماماً. يزورنا طلاب الجامعات باستمرار طلباً لأدوية النوم الثقيلة. نحاول عادة إقناعهم بالتروّي قبل اللجوء إلى هذه العقاقير، ننصحهم بالبحث عن حلول أخرى ولو كنا نعلم ضمنياً أن الحلول غائبة.

ما هي أنواع الأدوية التي ازداد الطلب عليها؟
لاحظنا ازدياد أعداد طالبي أدوية الباروكسيتين، وهم أولئك الذين يعانون من حالات الاكتئاب أو السكيزوفرينيا، بالإضافة إلى مهدّئات الأعصاب، وأدوية النوم مثل ستيلنوكس وليكسوتانيل. كذلك ارتفع الطلب على دواء سيبراليكس المضادّ للاكتئاب. لو أردنا أن نحصي عدد طالبيه يومياً في الصيدلية، في وقت واحد، لشكّلوا طابوراً طويلاً لا يقلّ حجماً عن الطوابير التي اصطفّت أمام محطّات الوقود في السابق.

كيف أثّر ارتفاع أسعار الأدوية على القدرة الشرائية للمرضى المزمنين؟
من يأخذ هذه العقاقير في العادة لديه استعداد للتخلي عن الطعام والمستلزمات الأساسية الأخرى من أجل ضمان حصوله عليها، رغم الارتفاع المستمرّ في أسعارها. أما بالنسبة إلى المدمنين، فتصلنا في العادة أخبار عن تهديدهم المستمرّ لعائلاتهم، وسرقتهم لأموالها أحياناً لتأمين الأدوية.

ماذا بالنسبة إلى انقطاع بعض هذه الأدوية، كيف تتعاملون مع الأمر؟
في السابق كان الوكيل يرسل إلينا كميات منها بلا سقف محدّد. إذا ما طلبنا 10 علب، كنا نحصل عليها مباشرة. الآن لم يعد يعطينا أكثر من 4 علب خلال 15 يوماً كحدّ أقصى. وهو عدد يعجز عن تلبية حاجة المرضى خصوصاً من أشرنا إليهم سابقاً، أي من تطوّرت حالتهم إلى نوع من الإدمان أمام غياب المتابعة مع الطبيب النفسي. كل هذا يعرّض الصيدلية إلى حوادث لم نكن نشهدها في السابق. مثلاً، لم تعد لدينا القدرة نفسها للحصول على حقن مثل "كلوبيكسول ديبوت"، فيما ارتفعت حاجة الناس إليها في المقابل، ومعظمهم من مرضى الأعصاب التالفة. من كانت تنجح هذه الحقنة في تهدئته لـشهر كامل، بات يحتاج إليها مرتين في الشهر، خصوصاً مع انقطاع بعض الأدوية التي يتناولها المريض إلى جانب هذه الحقنة.

هل هناك من يطلب هذه الأدوية من دون وصفات طبيّة؟
في العادة، لا يأتي المدمنون، خصوصاً مدمني المخدرات، من دون وصفات طبيّة. لكنّ الأدوية المدوّنة تفضحهم بطريقة أو بأخرى، مثل دواءَي الريفوتريل والفاكيوم، الرائجيْن بين المدمنين. صرنا نميّز المدمن عن المريض الحقيقي. وصفة الطبيب تكشف ذلك، فأحياناً، يأتي المدمن مع وصفة لبعض العقاقير التي لا يمكن تناولها في الوقت نفسه كالريفوتريل وليكساتونيل. لن يصف أي طبيب خبير هذين العقارين معاً. إذا قارنا أعداد هؤلاء مع أعدادهم خلال فترة الحرب الأهلية مثلاً، سيتفوّق عددهم الآن. فخلال الحرب، كان قبضايات الحي والمقاتلون هم وحدهم من يلجأون إلى هذه الأدوية.

كيف تصف وجوه طالبي هذه العقاقير من المدمنين أو المرضى؟
إنها وجوه بيضاء خالية من التعابير، ما خلا بعض ملامح الإحباط والتعب. من يصل إلى صيدليتنا غالباً، يكون قد بحث عن دوائه في صيدليات أخرى من دون أن يعثر عليه. وحين يعثر عليه، سيزداد يأساً حين يتعرّف إلى سعره الجديد. مرضى الأرق مثلاً، يتميّزون بوجوه بلا لون وبعيون جاحظة، وحين يفشلون في الحصول على الدواء، في حالات انقطاعه، لا يجدون خياراً أمامهم سوى البكاء.

ما هي الحوادث العنفيّة التي شهدتها الصيدلية في الأشهر الأخيرة؟
صرنا في حالة قلق وترقّب دائمين. في فترة انقطاع الأدوية جاءنا شاب يطلب مهدّئ كزاناكس. كان فاقداً لأعصابه، وكان مستعدّاً لإطلاق النار علينا. لم تفلح كلّ محاولاتنا لإقناعه بأن الدواء مفقود، إلى أن جاء بعض الشبان وأخرجوه بالقوّة. تحت ضغط حاجتهم إلى هذه الأدوية اليوم، يلجأ المدمنون إلى التهديد بأذية أنفسهم داخل الصيدلية. هناك من يحضر معه شفرة، أو يضعها في فمه، ويهدّدنا بقتل نفسه ما لم نعطه الدواء. حوادث كهذه باتت تتكرّر، وهذا ما يدفعنا أحياناً إلى منح المرضى الحقيقيين هذه الأدوية بطريقة شبه سريّة، لكيلا تصبح الصيدلية قبلة للمدمنين. أما بعض الحقن المهدّئة، فلا يمكن أن تؤخذ إلا في الصيدلية، مثل "كلوبيكسول ديبوت"، لذلك يصلنا الشخص في حالة انهيار عصبي، بمفرده أو بصحبة أحد أفراد العائلة. مرّة جاءنا شاب منهاراً برفقة والده. ما إن دخل الصيدلية حتى خلع ثيابه، وهدّد بالتبوّل أمام الزبائن والموظفين. علينا أن نتعامل مع حالات كهذه يومياً. معظم من يحتاجون إلى هذه الحقنة، مهدّدون دائماً بفقدان أعصابهم، ويكون هذا الانهيار مقروناً عادة بطلبات أخرى، مثل أكلة معيّنة كاللحم مثلاً، أو شراء غرض ما. العائلات التي كانت تملك في السابق القدرة الشرائية لتلبية حاجات أفرادها من المرضى العصبيين، صارت عاجزة تماماً عن فعل ذلك. فصارت تضاعف من عدد الحقن لأبنائها، لأن كلفتها تبقى أقل من كلفة طلباتهم الأخرى.