أستلقي وسط الرمال كأنني آخر الأحياء فوق سطح الكوكب، يرمي الهواء بذرّات الرمال على جسدي العاري وتجعلني شمس البحر أسترخي في أيام الصيف اللاهبة هذه. هكذا أقضي أفضل أوقاتي الصيفية: ألوكها على الشاطئ، أتجرع البيرة وأصغي إلى البحر محاولةً الانفصال عن كل ما يربطني بالواقع. أمضيت الفترة الماضية متنقلة ما بين جلسات العلاج النفسي والبحث عن عمل. حسناً إنني أكذب، فقد كنت أهرب من كل فرصة عمل تصادفني. لا أريد الالتزام داخل مقر وظيفة لتسع ساعات تبدو دوّامة في جوف الأبد، أخرج بعدها منها كسنبلة منحنية بعد شتاء مباغت قارس، سيطحن الأمر روحي. في كل يوم يزداد ضيق الخناق، أحاول إصلاح ذاتي لأحقق شيئاً من الاستقرار النفسي إثر انتكاسات مدوية الأثر. في عالم يلفه العبث المُنظّم، يصعب علينا نحن الأفراد العاديين أن نجد مخرجاً. يتسرب إليّ كافكا بمحاكمته ورسوماته الواقعية للكوابيس التي نحياها مع كل احتكاك بالخارج. أرى مشاهد رواياته متخيَّلةً أمام ناظري، من كيفية تعليب الفرد داخل مكاتب إسمنتية وتعذيب روحه الوحيدة لتخرج متآكلة يوماً بعد يوم، انهياراً بتدرج غير مرحليّ الطابع، فينتهي بضربة واحدة، إذ لم تمنحه الآلهة سبعة أرواح كالقطط.
أجرجر نفسي في شوارع المدينة بعد نفاذ الوقود من سيارتي، أركنها جانباً ولا أكترث أن يكون المكان مخصصاً للوقوف أم لا، ما أهمية ذلك حقاً؟ سيارة بلا وقود في بلد يشح بهذه المادة التي أصبح امتلاكها غاية يتسابق إليها المواطنون. أقفلها وأسير إلى وجهتي.

أجوب الشوارع مراراً كأني أمرّ بها للمرة الاولى، إنها إحدى عاداتي في المدينة: المشي حتى الإنهاك. لكن عليّ اليوم أن أعجل في إنجاز ما قدمت لأجله وأعود مسرعة الى دياري، لن أطيق البقاء أكثر على ما يبدو، في مدينة يتكثف فيها التلوث على أشكاله وهي تضيّق أكثر فأكثر جدرانها على المارة. ظهراً أصل إلى إحدى الدوائر الرسمية، الناس يتكومون عند باب المدخل، وحارسان يمنعان القادمين من الدخول لأسباب غير منطقية بتاتاً. لماذا يقف حارسان أمام باب الدائرة؟ أليست مكاناً للعامة لكي يخلّصوا معاملاتهم ولتسيير أمور حياتهم؟ لماذا يُمنعون من الدخول ويُجبرون على المكوث طويلاً، منتظرين اللاشيء تقريباً؟
تتعالى الصرخات بين الفينة والأخرى حاملةً سخط هؤلاء، فلا يسمعون إلا جواباً واحداً يتردد بشكل أوتوماتيكي: «ليس الآن، إنه القانون». يقولها الحارس مجرد كلمة لتخدير الساخطين في الخارج وإرعابهم وامتصاص حنقهم المتراكم.
استطعت الدخول أخيراً. كنت في حاجة إلى تمرير ورقة واحدة لا غير، سريعة التنفيذ، عملية ختم وطابع فقط. هذه المعاملة البسيطة في الحقيقة قد تمكث شهراً قبل أن تُنجز، إذ أن تخليصها يعتمد على مزاج الموظف وأولوياته. وصلت الى مكتب المسؤول عنها، أجابت الموظفة رافعةً حاجبيها من وراء هاتفها، أن المعاملة في مكتب المدير وهو لم يأت اليوم، ثم أكملَتْ تلهو بجهازها. بقيتُ أرمقها وكلماتٌ غاضبة، غير مؤدبة بطبيعة الحال، تغلي وتكاد تنفر من فمي، لكني تريثت وفكرت بأنها أدت فعلاً مهمتها كاملةً لهذا اليوم، لقد أجابت على سؤالي ولا شيء آخر يمكنها فعله، فإنجاز الورقة ليس من وظيفتها. نعم بهذه البساطة القاهرة. انصرفت بابتسامة باهتة دون أية كلمة. أثناء نزولي رأيت بشراً مكدسين في كل طابق على طول الممر يحاولون استنشاق القليل من عوادم السيارات. هذه مدينة بلا هواء، وإلى أن يأتي دورهم في الدخول، هذا إن أتى! يلوح كافكا أمامي مجدداً. اليوم ميلاد العزيز وقد زاد عمره في الأبدية سنة، أبتسم للفكرة، وأنا أحدق في هذا الكم المكبوس من اللحم البشري في ممرات ضيقة، لحم بشري بكيان واحد لا يكترث لطريقة وجوده، عبارة «جاية دورك» فقط تهدّئ من غليانهم، فيصبرون وقد لا يكون صبراً حتى، شاردي الذهن، رماد سجائرهم يتطاول لا حيل فيهم لينفضوه عنها، ويتماهون معه.
العالم أمامي متجلٍ برسم كافكاوي في غاية الوضوح. يتداخل الواقع بصور ذهنية تمحي غبش الفارق الضئيل الموجود أمامي.
حين كتب كافكا، أعطى العالمَ صورةً ذهنية صرنا بعدها قادرين على تبيّنه فيها بشكل منظومةٍ، وتراتُبية غير متزنة، بعلاقات متشعبة مشدودة إلى بعضها البعض كمجسات أخطبوط تعتصر الجميع.
رسمَ المعالم السلطوية بصور رمزية في غاية الدقة عن كيفية تفاعل مكونات السلطة والإنتاج لتحقيق الغاية الملتبسة، عن تفتيت كيان الفرد حتى يتماهى مع الغموض. تقول إحدى الشخصيات في المحاكمة ليوزف ك : «لا تكن صعب المراس هكذا بعد الآن، هذه المحكمة لا يمكن صدّها، على المرء أن يتقدم بالاعتراف». وهكذا على الفرد أن يُسلّم نفسه دون سؤال، أيْ أن يُجبر على الخضوع التام.

يسيطر داخل هذه المعالم نظام بيروقراطي يجعل من أدنى عامل فيها صاحب سلطة خطيرة. يتمتع هؤلاء بسلطة شرعية لكونهم جلادين، والجلاد مرتبةٌ أعلى من مجرد حارس، يوجّه السوط أداةً لإخافة وإخضاع من هم أدنى مرتبة. الإنسان ضمن هذا النظام السائد في العالم، يعيش في قلق وخوف دائمين حيث أنه فقد السيطرة على حياته التي أصبحت رهن سلطات تراقبه باستمرار. في «المحاكمة» كان أوّل حدث هو اعتقال يوزف ك ووضعه تحت رقابة الحراس، ومع تقدم الأحداث نبدأ باكتشاف أنه مراقب من قِبل الجميع بطرق عدة.
نخرج بصدر مطبق من المبنى، أنا ثم كافكا.
أتابع سيري في محاولة إيجاد بعض الوقود. يتحكم بي هاجس يلح عليّ للهرب من هذه المدينة. كان المشهد بطيئاً، وفعل إفراغ غالونات مفضوحاً كأنه سرقة من نوع ما. أتممت المهمة، أدرت المحرك وانطلقت مسرعة جنوباً، إلى المنفذ باتجاه بحرنا مباشرةً. وعلى صوت الجاز في السيارة، شيئاً فشيئاً بدأ القلق بالتلاشي، خارجاً من جسدي، باستنشاق مطّرد لهوائنا النظيف. هنا في الجنوب يحيى الإنسان بنقاوة تمكّنه من العودة الى الأعماق الغامقة المنعزلة للروح، والانصهار برحابة الأرض.